وضعتُ القصاصات تحت الوسادة و أرخيتُ جفوني... سأنام على صورتكِ يا رغد !
فجأة... صحوتُ على صوتُ جلبة... أشبه بارتطام شيء ما بالأرض... مصحوبة بصراخ قوي !
نهضتُ بسرعة و سمعتُ صوت صرخات متتالية و متداخلة مع بعضها البعض في آن واحد... أسرعتُ للخروج من غرفتي و هرولتُ ناحية مصدر الصراخ...
إنه السلّم...
وصلتُ أعلى عتباته و ألقيتُ نظرة سريعة نحو الأسفل و ذهلتُ !
قفزتُ العتبات قفزا حتى وصلتُ إلى منتصف الدرَج... حيث وجدتُ رغد و أروى جاثيتين على العتبات إحداهما تئن بفزع... و الأخرى تتلوى ألما و تطلق الصرخات...
و مجموعة من الأوراق مبعثرة على العتبات من حولهما...

" ماذا حدث ؟؟ "


سألتُ مفزوعا... و لم تجب أيهما بأكثر من الأنين و الصراخ...


" رغد...أروى ...ماذا حدث ؟؟ "


ردّتْ أروى و هي تضغط على كوعها بألم :


" وقعنا من أعلى السلم "


لم يكن لدي مجال لأندهش... فقد كانتْ رغد تصرخ بألم و تنقل يدها اليسرى بين يمناها و رجلها اليسرى...


قلتُ بسرعة :


" أأنتما بخير ؟؟ "


أروى وقفتْ ببطء و استندتْ إلى الجدار... و أما رغد فقد بقيتْ على وضعها تئن و تصرخ


" رغد هل أنت ِ بخير ؟؟ "


عصرتْ رغد وجهها من الألم فسالتْ الدموع متدفقة على وجنتيها المتوهجتين...


قلتُ :


" رغد ؟؟ "


فأجابتْ باكية متألمة صارخة:


" يدي... قدمي... آه... تؤلماني... لا أحتمل... ربما كسرتا "


أصبتُ بالهلع... أقبلتُ نحوها حتى جلستُ قربها تماما... و سألتُ :


" هذه ؟ "


مادا يدي إلى يدها اليمنى و لكني ما أن قرّبتُ يدي حتى صرختْ رغد بقوة و أبعدتْ يدها عنّي...


" رغد "


هتفتُ بهلع، فردتْ :


" تؤلمني بشدة... آي... لا تلمسها "


فوجهتُ يدي إلى يدها اليسرى :


" و هذه؟ أتؤلمك؟ "


" كلا "


فأمسكتُ بها و أنا أقول:


" إذن... دعيني أساعدكِ على النهوض"


رغد حركتْ رأسها اعتراضا و قالتْ:


" لا أستطيع... قدمي ملتوية... تؤلمني كثيرا... لا أستطيع تحريكها "


و نظرتْ نحو قدمها ثم سحبتْ يدها اليسرى من يدي و أمسكتْ برجلها اليسرى بألم

و كانتْ قدمها ملوية إلى الداخل، يخفي جوربها أي أثر لأي كدمة أو خدش أو كسر...

قلتُ :


" سأحاول لفها قليلا "


و عندما حركتها بعض الشيء... أطلقتْ رغد صرخة قوية ثقبتْ أذني و أوقفتْ نبضات قلبي...

يبدو أن الأمر أخطر مما تصورتُ ... ربما تكون قد أصيبتْ بكسر فعلا...
تلفتُ يمنة و يسرة في تشتت من فكري... كانت أروى متسمّرة في مكانها في فزع... بدأ العرق يتصبب من جسمي و الهواء ينفذ من رئتيّ... ماذا حلّ بصغيرتي ؟؟
التفت ُ إلى رغد بتوتر و قلتُ:

" سأرفعكِ "


و مددتُ ذراعي بحذر و انتشلتُ الصغيرة من على العتبة و هي تصرخ متألمة... و هبطتُ بها إلى الأسفل بسرعة... و أثناء ذلك ارتطمتْ قدمي بشيء اكتشفتُ أنه كان هاتفي المحمول ملقى ً أيضا على درجات السلم...

حملتُ رغد إلى غرفة المعيشة و وضعتها على الكنبة الكبرى... و هي على نفس الوضع تعجز عن مد رجلها أو ثنيها... أما يدها اليمنى فقد كانتْ تبقيها بعيدا خشية أن تصطدم بي...

" رغد... "


ناديتها باضطراب... لكنها كانتْ تكتم أنفاسها بقوة حتى احتقن وجهها وانتفختْ الأوردة في جبينها... و برزتْ آثار اللطمات التي أمطرتها بها صباحا أكثر... حتى شككتُ بأنها آثار جديدة سببها الدرج من شدّة توهجها...

بعدها انفجر نفَس رغد بصيحة قوية قطّعت حبالها الصوتية...

قلتُ مفزوعا :


" يا إلهي... يجب أن آخذك إلى الطبيب "


وقفتُ ثم جثوتُ على الأرض ثم وقفتُ مجددا... خطوتُ خطوة نحو اليمين و أخرى نحو اليسار... تشتتُ و من هول خوفي على رغد لم أعرف ماذا أفعل... أخيرا ركزتْ فكرة في رأسي و ركضتُ في اتجاه غرفتي، أريد جلب مفاتيح السيارة...


عند أول عتبات السلّم كانتْ أروى تقف متسمرة تنم تعبيرات وجهها عن الذعر...!

وقفتُ برهة و أنا طائر العقل و قلتُ باندفاع :

" ماذا حدث ؟ كيف وقعتما؟ ربما انكسرتْ عظامها ... سآخذها إلى المستشفى "


لم أدع لها المجال للرد بل قفزتُ عتبات الدرج قفزا ذهابا ثم عودة... و أنا أدوس عشوائيا على الأوراق المبعثرة عليها دون شعور... ثم رأيتُ أروى لا تزال قابعة في مكانها... فهتفتُ:


" تكلـّمي ؟؟ "


و أنا أسرع نحو غرفة المعيشة... توقفتُ لحظة و استدرتُ إلى أروى و قلتُ:


" و أنتِ بخير ؟ "


أومأتْ أروى إيجابا فتابعتُ طريقي إلى رغد... و لم أشعر بأروى و هي تتبعني...

وجدتُ رغد و قد كوّمت جزء ً من وشاحها لتعضّه بين أسنانها... حين رأتني خاطبتني و الوشاح لا يزال في فمها:

" وليد... سأموت من الألم...آي "


ركعتُ قربها و مددتُ ذراعيّ أريد حملها و أنا أقول:


" هيا إلى الطبيب... تحمّلي قليلا أرجوك "


و عندما أوشكتُ على لمس رجلها دفعتْ يدي بعيدا بيدها و صاحتْ:


" لا... أقول لك تؤلمني... لا تلمسها "


قلتُ :


" يجب أن أحملك ِ إلى المستشفى رغد... أرجوك ِ تحملي قليلا... أرجوكِ صغيرتي "


جمعت ْ رغد القماش في فمها مجددا و عضّت عليه و أغمضتْ عينيها بقوة...

حملتها بلطف قدر الإمكان متجنبا لمس طرفيها المصابين... و استدرتُ نحو الباب... هناك كانت أروى تقف في هلع تراقبنا...

قلتُ :


" هيا... اسبقيني و افتحي لي الأبواب بسرعة "


و هكذا إلى أن أجلستُ الصغيرة على مقعد السيارة الخلفي، ثم فتحتُ بوابة المرآب و انطلقتُ بسرعة...

لحسن الحظ كانت رغد لا تزال ترتدي عباءتها و وشاحها الأسودين، لم تخلعهما منذ خرجنا إلى النزهة أول الليل...
عندما وصلنا إلى المستشفى، استقبلنا فريق الإسعاف بهمة و حملنا رغد على السرير المتحرك إلى غرفة الفحص... كانت لا تزال تصرخ من الألم...

سألني أحد الأفراد :


" حادث سيارة ؟ "


قلتُ :


" لا ! وقعتْ من أعلى السلّم... ربما أصيبت ْ بكسر ما... أرجوكم أعطوها مسكنا بسرعة "


أراد الطبيب أن يكشف عن موضع الإصابة... تحمّلتْ رغد فحص يدها قليلا و لكنها صرختْ بقوة بمجرّد أن وجه الطبيب يده إلى رجلها اليسرى... و يبدو أن الألم كان أشد في الرجل... شجعتها الممرضة و حين همّتْ بإزاحة الغطاء عن رجلها استدرتُ و وقفتُ خلف الستارة...

عادتْ رغد تصرخ بقوة لم أحتملها فهتفتُ مخاطبا الطبيب:

" أرجوك أعطها مسكنا أولا... لا تلمس رجلها قبل ذلك... ألا ترى أنها تتلوى ألما؟؟"


و صرختْ رغد مرة أخرى و هتفتْ:


" وليد "


لم احتمل... أزحتُ الستارة و عدتُ إلى الداخل و مددتُ يدي إلى رغد التي سرعان ما تشبثتْ بها بقوة...


" معكِ يا صغيرتي... تحمّلي قليلا أرجوك "


و استدرتُ إلى الطبيب :


" أعطها مسكنا أرجوك... أرجوك في الحال "


الممرضة كشفتْ عن ذراع رغد اليسرى بهدف غرس الإبرة الوريدية في أحد عروقها... و لمحتْ الندبة القديمة فيها فسألتني :


" و ما هذا أيضا ؟ "


قلتُ غير مكترث:


" حرق قديم...لا علاقة له بالحادث "


و بمجرد أن انتهتْ الممرضة من حقن رغد بالعقار المسكن للألم عبر الوريد، عادتْ رغد و مدتْ يدها إليّ و تشبثتْ بي...


" لا تقلقي صغيرتي... سيزول الألم الآن "


قلتُ مشجعا و أنا أرى الامتقاع الشديد على وجهها المتألم الباكي...

و مضتْ بضع دقائق غير أن رغد لم تشعر بتحسن

" ألم يختفِ الألم ؟ "


سألتها فقالتْ و هي تتلوى و تهز رأسها:


" تؤلمني يا وليد... تؤلمني كثيرا جدا "


خاطبتُ الممرضة :


" متى يبدأ مفعول هذا الدواء ؟ أليس لديكم دواءٌ أقوى ؟؟ "


الطبيب أمر الممرضة بحقن رغد بدواء آخر فحقنته في قارورة المصل المغذي و جعلته يسري بسرعة إلى وريدها...


قلتُ مخاطبا الطبيب :


" هل هذا أجدى ؟ "


قال :


" فعال جدا "


قلتُ :


" إنه ألم فظيع يا دكتور... هل تظن أن عظامها انكسرتْ ؟ "


أجاب :


" يجب أن أفحصها و أجري تصويرا للعظام قبل أن أتأكد "


بعد قليل... بدأتْ جفون رغد تنسدل على عينيها... و صمتتْ عن الصراخ... و ارتختْ قبضتها المتشبثة بي...


نظرتُ إلى الطبيب بقلق فقال :


" هذا من تأثير المخدّر... ستغفو قليلا "


ثم باشر فحص رجل رغد و أعاد تفحص يدها اليمنى... و بقية أطرافها... و عندما انتهى من ذلك، أمر بتصوير عظام رجلَي رغد و يديها و حتى جمجمتها تصويرا شاملا...


" طمئني أيها الطبيب رجاء ً ... هل اتضح شيء من الفحص ؟؟ "


نظر إليّ الطبيب نظرة غريبة ثم سألني و هو يتكلم بصوتٍ منخفض:


" قل لي... هل حقا وقعتْ على درجات السلم ؟ "


استغربتُ سؤاله و بدا لي و كأنه يشك في شيء فأجبتُ :


" نعم... هذا ما حصل"


قال الطبيب :


" كيف ؟ "


قلتُ :


" لا أعرف فأنا لم أشاهد الحادث... و لكن لماذا تسأل ؟ "


قال :


" فقط أردتُ التأكد... فوجهها مكدوم بشكل يوحي إلى أنها تعرضتْ للضرب! و ربما يكون الأمر ليس مجرد حادث "


أثار كلام الطبيب جنوني و غضبي فرددتُ منفعلا :


" و هل تظن أننا ضربناها ثم رميناها من أعلى الدرج مثلا ؟ "


لم يعقّب الطبيب فقلتُ :


" وجهها متورم نتيجة شيء آخر لا علاقة له بالحادث "


تبادل الطبيب و الممرضة النظرات ذات المغزى ثم طلب منها اصطحاب رغد إلى قسم الأشعة.


و لأنني كنتُ هلعا على رغد عاودتُ سؤاله :


" أرجوك أخبرني... هل تبين شيء بالفحص لا قدّر الله ؟ "


رد صريحا :


" لا أخفي عليك... يبدو أن الإصابة في الكاحل بالغة لحد ما... أشك في حدوث تمزق في الأربطة "


ماذا ؟؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟؟ تمزّق ؟ كاحل ؟؟ رغد ... !!


تابع الطبيب :


" الظاهر أن قدمها قد التوتْ فجأة و بشدّة أثناء الوقوع... و لديها تورم و رض شديد في منطقة الساق... قد تكون ساقها تعرضت لضربة قوية بحافة العتبة... أما يدها اليمنى فأتوقع أنها كُسِرتْ "


كسر؟؟ تمزق ؟؟ التواء؟؟ تورم؟؟ رض ؟؟ما كل هذا ؟؟ ماذا تقول ؟؟

شعرتُ بعتمة مفاجئة في عيني ّ و بالشلل في أعصابي... يبدو أنني كنتُ سأنهار لولا أن الطبيب أسندني و أقعدني على كرسي مجاور... وضعتُ يدي على رأسي شاعرا بصداع مباغت و فظيع... كأن أحد الشرايين قد انفجر في رأسي من هول ما سمعتُ...
الطبيب ثرثر ببعض جمل مواسية لم أسمع منها شيئا... بقيتُ على هذه الحال حتى أقبلتْ الممرضات يجررن سرير رغد و يحملن معهن صور الأشعة...
الطبيب أخذ الأفلام و راح يتأملها على المصباح الخاص... و ذهبتُ أنا قرب رغد حتى توارينا خلف الستار...
الصغيرة كانت نائمة و بقايا الدمع مبللة رموشها... تمزق قلبي عليها و أمسكتُ بيدها اليسرى و ضغطتُ بقوّة...
كلا يا رغد !
لا تقولي أن هذا ما حدث؟ أنتِ بخير أليس كذلك؟؟ ربما أنا أحلم... ربما هو كابوس صنعه خوفي المستمر عليك و جنوني بك !
رباه...