فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراع إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون:
إن القاع سار سيرا ملسا ** بين دبيرى ودَباها خمسا
قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه أن رجلا من الربيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة، وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط. فقدموها ليقتلوها، وأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها بأسيافهم.
قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت.
قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت وسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة. قال: فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا إليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه. قال. فلما كان الليل عبرت إليه أنا ورجل من الحي. فأنزلناه فدفناه.
ليال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برؤوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن الحارث ومحمد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا إبراهيم بن الأشتر.
قال أبو مخنف: وحدثني حصيرة بن عبد الله وأبو زهير العبسي أن الازارقة لما انتهوا إلى جسر الصلاة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم، قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس. ثم إنه جلس للناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أول القتال الرميا بالنبل، ثم إشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله. قال: فقام اليه رجل فقال: قد أحسن الأمير أصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر. ثم إنهم خرجوا منها فاتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلاهم فاتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحي، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إلبهم في كل يوم فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمرن من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول:
كيف ترون يا كلاب النار ** شد أبي هُريرة الهَرّار
يهِرُّكم بالليل والنهار ** يا ابن أبي الماحوز والأشرار
كيف تُرى جَيَّ على المِضمار
فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يرم فصنع كما كان يصنع، ويقول ما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هريرة الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هريرة أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون: يا أعداء الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا. فقال له أصحابه: ويحك إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم. ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كُراعهم ونفدت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فوالله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا مجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء. من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياة وقوة قبل ألا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل ألا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فوالله إني لأرجو إن صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم. فناداه الناس من كل جانب؟ وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه، وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز. فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم.
قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم.
قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فاقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان. ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى أيذج، فاقام بأرض الأهواز والحارث بن أبي ربيعة عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة. فأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا اليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس، لا يُنقع بعضهم لبعض من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو.
وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق.
وفيها قتل عبيد الله بن الحر.
ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر

ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه
روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج ذلك الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا. فخرح إلى الشام، فكان مع معاوية وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قُتل علي عليه السلام، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت. فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك.
فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك. قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الاشرس، والله ما كان في الأرض عربي أغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان. فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فرجعت، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصر، فقال حين أخرج امرأته من السجن:
ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** أنا الفارس الحامي حقائق مَذحِجِ
وأني صَبَحت السجن في سورة الضحى ** بكل فتى حامي الذمار مُدجّج
فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا ** جبين كقرن الشمس غير مُشنّج
وخد أسيل عن فتاة حَييّة ** إلينا سقاها كل دان مثجّج
فما العيش إلا أن أزورك آمنا ** كعادتنا من قبل حربي ومَخرجي
وما أنتِ إلا همة النفس والهوى ** عليك السلام من خليط مُسَحّج
وما زلت محبوسا لحبسك واجما ** وإني بما تلقين من بعده شَجِ
فبالله هل أبصرت مثلي فارسا ** وقد ولجوا في السجن من كل مولج
ومثلي يحامي دون مثلك إنني ** أشُدُّ إذا ما غمرة لم تفرّج
أضارقهم بالسيف عنك لترجعي ** إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج
إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم ** ككر أبي شبلين في الخيس مُحرج
دعوت إلى الشاكري ابن كامل ** فولى حثيثا رفضه لم يُعرّج
وإن هتفوا باسمي عَطَفْتُ عليهم ** خيولَ كرامِ الضرب أكثرُها الوجي
فلا غرو إلا قول سلمى ظعينتي ** أما أنت يا ابن الحر بالمتحرّج
دع القوم لا تقتلهم وانجُ سالما ** وشمر هداك الله بالخيل فاخرج
واني لأرجو يا ابنة الخير أن أُرى ** على خير أحوال المؤمل فارتجي
ألا حبذا قولي لأحمر طيء ** ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج
وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل ** وقولي لذا من بعد ذلك أسرج
وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه. ووثبت همدان مع المختار فأحرقرا داره، وانتهبوا ضيعته بالجُبّة والبُداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه. ففي ذلك يقول:
وما ترك الكذاب من جل مالنا ** ولا الزرق من همدان غير شريدِ
أفي الحق أن تنهب ضياعي شاكر ** وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد!
ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** على حدثان الدهر غير بليد
أشد حيازيمي لكل كريهة ** وإني على ما ناب جد جليد
فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة ** فعالجت بالكفين غُل حديد
هم هدموا داري وقادوا حليلتي ** إلى سجنهم والمسلمون شهودي
وهم أعجلوها أن تشد خمارها ** فيا عجبا هل الزمان مقيدي
فما أنا بابن الحر إن لم أرُعْهُمُ ** بخيل تعادي بالكماة أسود
وما جَبُنَتْ خيلي ولكن حَملتُها ** على جَحفل ذي عُدّة وعديد
وهي طويلة.