قال: وكان يأتي الدائن فيمر بعمال جُوخَى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار، قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب السواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر:
من مبغ الفتيان أن أخاهم ** أتى دونه باب شديد وحاجبه
بمنزلة ما كاد يرضى بمثلها ** إذا قام عنه كبول تجاوبه
على الساق فرق الكعب أسود صامت ** شديد يداني خطوه ويقاربه
وما كاد ذا من عظم جرم جنيته ** ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه
وقد كلاد في الأرض العريضة مسلك ** وأي امرئ ضاقت عيه مذاهبه
وفي الدهر والأيام للمرء عبرة ** وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه
فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن ياتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني. وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسك قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب.
فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه فشفعهم فاطلقه، وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فاظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنؤنه، فقال: هذا الأمر لا يصلح ألا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو مَن عَزَّ بَزَّ، فعلام نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاة ولا أعظم منا غناء، وقد عهد إلينا رسول الله ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا ولا وزيرا تقيا. كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف الآخرة؟ فعلام تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فاي الأحمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله.
وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المعادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها،لست قابلا شيثا ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأموّلُك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس:
لا كوفة أمي ولا بصرة أبي ** ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل
قال أبو الحسن: يروى هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي
فلا تحسبني ابن الزبير كناعس ** إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل
فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا ** بفرسانها لا أُدْعَ بالحازم البطل
وإن لم تر الغارات من كل جانب ** عليك فتندم عاجلا أيها الرجل
فلا وضعت عندي حصان قناعها ** ولا عشتُ إلا بالأماني والعلل
وهي طويلة.
فبعث مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث إليه مصعب حريث بن زيد -أو يزيد- فبارزه فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسي ففر دهقانها ظيزجشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه -وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئد ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى أنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر:
لو أن لي مثل جرير أربعه ** صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن معه ** نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه
ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن الغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفى لعبيد الله: قد أتاك عدد كئير فلا تقاتلهم، فقال:
يخوفني بالقل قومي وإنما ** أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى ** فنحيا كراما أو نكر فنقتل
فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلائمائة، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء، وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة. قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواه ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيء، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر:
لو أن لي مئل الفتى المجشر ** ثلاثة بَيَّتُهُم لا أمتري
ساعدني ليلة دير الأعور ** بالطعن والضرب وعند المعبر
لطاح فيها عمر بن معمر
وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني -وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقُتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرح عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون بحولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إلبه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر، فبلغ قوله مصعبا فقال: هذا من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك:
سلو ابن رؤيم عن جلادي وموقفي ** بديوان كسرى لا أوليهمُ ظهري
أكر عليهم معلما وتراهمُ ** كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخرِ
ولهم في حصن كِسرى بن هُرْمُزٍ ** بمشحوذة بيض وخطية سُمر
فأجزيتهم طعا وضربا تراهم ** يلوذون نما موهنًا بذرا القَصْر
يلوذون مني رهبة ومخافة ** لواذًا كما لاذ الححائم من صَقْر
ثم إن عبيد الله بن الحر -فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجّه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير على الكوفة، فسالوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم صاعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة.
قال ابو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قبل: كان سبب مقتل عبيد الله بن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مُصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير -فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ** فلست على رأي قبيح أواربُهْ
أفي الحق أن أجفى ويَجعل مصعب ** وزيريه من كنت فيه أحاربه
فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي ** وحقي يُلوى عندكم وأطالبه
وأبليتكم ما لا يضيع مثله ** وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدا ** وأدرك من مال العراق رغائبه
جفا مصعب عني ولوكان غيره ** لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابني من مصعب ان مصعبا ** أرى كل ذي غش لثا هو صاحبه
وما أنا إن حَلّأتموني بوارد ** على كدر قد غُصَّ بالصفو شاربه
وما لامرئ إلا الذي الله سائق ** إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا قمت عند الباب أدخِلَ مُسلمٌ ويمنعني أن أدخل الباب حاجبُه
وهي طويلة.
وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله:
أقول له صبرًا عَطيُّ فإنما ** هو السجن حتى يجعل الله مخرجا
أرى الدهر لي يومين يوما مطردا ** شريدا ويوما في الملوك متوّجا
أتَطعَنُ في دبني غداة أتيتُكم ** وللدين تُدني الباهلي وحَشْرَجا!
ألم تر أن الملك قد شين وجهه ** ونَبْعُ بلاد الله قد صار عَوْسَجَا!
وهي طويلة.
وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد بن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية:
بأي بلاء أم بأية نعمة ** تَقدَّمُ قبلي مسلمٌ والمهلّبُ
ويدعى ابن منجوف أمامي ** كأنه خصي أتى للماء والعَير يَسرُبُ
وشيخ تميم كالثغامة رأسُه ** وعيلان عنا خائف مترقب
جعلت قصور الأزد ما بين منبجٍ ** إلى الغاف من وادي عُمان تصوّب
بلاد نفى عنها العدوَّ سيوفنا ** وصُفرة عنها نازحُ الدار أجنب
وقال قصيدة يهجو فيها قيس عَيلان، يقول فيها:
أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا ** بقيس تجدهم ذروة في القبائل
ألم تر قيسا قيس عيلان بَرَقَعَت ** لحاها وباعت نَبلَها بالمغازل
وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتُها ** تُقَصِّرُ عن بنيانها المتطاول
فكتب زُفَر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا. ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحُرّ فأسروه، فقال: إني إنما قلت:
ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ** إلينا وسارت بالقَنا والقنابل
فقتله رجل منهم يقال له عياش، فقال زفر بن الحارث:
لما رأيتُ الناس أولاد علة ** وأغرق فينا نَزغةً كلُّ قائلِ
تكلم عنا مَشيُنا بسيوفنا ** إلى الموت واستنشاط حبل المراكل
فلو يَسألُ ابنُ الحُرِّ أُخبِرَ أنها ** يمانية لا تُشتَرى بالمغازل
وأُخبر أنا ذاتُ علمٍ سيوفُنا ** بأعناقِ ما بين الطُّلى والكواهل
وقال عبد الله بن هَمّام:
ترنمت يا بنَ الحر وحدك خاليا ** بقول امرئ نَشوان أو قول ساقِطِ
أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ** وذبوا عن الأحساب عند المآقط
وتبكي لِما لاقت ربيعة منهم ** وما أنت في أحساب بكر بواسط