قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن مروان. والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلي، وقتل يحيى بن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل إبراهيم بن الأشتر، فهرب عتاب بن ورقاء -وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء؟ فقال لحجار بن أيحر: أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم.
حدثني أبو زيد، قال حدثني محمد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: أمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا؟ استعمله على الموصل، قال: أمعه عباد بن الحصان؟ قل: لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنسا بخر اسان!
خذيني فجُرّيني جَعارِ وأبشِري ** بلحمِ امرئ لم يَشهَدِ اليومَ ناصرُهْ
فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول. فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين. قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل، فرجع فقاتل حتى قتل.
قال علي بن محمد عن يحيى بن سعيد بن أبي المهاجر، عن أبيه: إن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال: إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد -وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج اليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما -وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه -وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب إلي من أن أراك غدا مقتولا.
ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك. لك الأمان. فقال له مصعب: قد آمنك عمك فامض إليه. قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثارات المختار! فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد. فأتى به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن ياخذها. وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا، فتركه عند عبد الملك.
وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطة مطرّف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة.
فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، أن مطرفا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نُمبر قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان، ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك:
ولما رأينا الأمر نكسا صدوره ** وهم الهوادي أن تكن تواليا
صبرنا لأمر الله حتى يقيمه ** ولم نرض إلا من أمية واليا
ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ** أخا أسد والنخعي اليمانيا
ومرت عقاب الموت منا بمسلم ** فأهوت له نابا فأصبح ثاويا
سقينا ابن سيدان بكأس روية ** كفتنا وخير الأمر ما كان كافيا
حدثني أبو يزيد، قال: حدثني علي بن عمد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرّف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت: في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان:
فلا في سبيل الله لاقى حمامَهُ ** أبوكِ ولكن في سبيل الدراهم
فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق، فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا.
ذكر الواقدي عن عثمان بن محمد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم.
قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئتَ، قال: ثم جاء رجل من أهل الشأم فدخل عسكره، فأخرج جارية فصاحت: واذُلّاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها.
قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك، وكانا يتحدثان إلى حُبَّى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله! قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والقتول.
قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت؟ أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال:
من يذق الحرب يجد طعمها ** مرا وتتركه بجعجاع
وقال ابن قيس الرقيات:
لقد أورثت المصرين خزيا وذلة ** قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ** ولا صبرت عند اللقاء تميم
ولو كان بكريا تعطف حوله ** كتائب يغلي حميمها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ** بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفيا هناك ملامة ** وبصريهم إن المليم مليم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ** ونحن صريح بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا ** لذي حرمة في المسلمين حريم
قال أبو جعفر: وقد قيل إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة الثانية وستين، وإن أمر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الأخرة.
ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفة

وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة الثانية وسبعبن.
وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الأخرة سنة الثانية وسبعين.
ولما أتى عبد الملك الكوفة -فيما ذكر- نزل النُّخَيلة ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قُضاعةُ، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مُضَرَ مع قلتكم! فقال عبد الله بن يعلى النَّهدي: نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا أمير المؤمنين.
ثم جاءت مَذْحج وهَمْدان، فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا.
ثم جاءت جُعْفِيٌّ، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ -يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم. قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحَّب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والإسلام، هو آمن، فجاؤوا به وكان يكنى أبا أيوب فلما نظر إلى عبد الملك قال: أيا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره، أي ابن زوملة هو! يعني غريبة.
وقال علي بن محمد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن مَعبَد بن خالد الجَدَلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عَدْوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت -وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟ فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك:
عذيرَ الحي من عَدْوا ** نَ كانوا حَيَّةَ الأرض
بغى بعضهم بعضا ** فلم يَرْعَوا على بعض
ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على الجميل فقال: إيه، فقال: لا أدري، فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضي ** فلا يُنقَض ما يقضي
ومنهم من يجيز الحج ** بالسُّنة والفَرض
وهم مذ ولِدوا شَبّوا ** بسِر النسب المحض
قال: تركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال: ولم سمي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري. فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال:
أبعد بني ناج وسعيك بينهم ** فلا تُتبِعنْ عينيك ما كان هالكَا
إذا قلتُ معروفا لأصلح بينهم ** يقول وُهَيْبٌ لا أُصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جُبّ سَنامُهُ ** تُطيفُ به الوِلدانُ أحدبَ باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي: في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبينِ، فقال: حطا من عطاه هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة.
ثم جائت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك.
وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه، فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة.
ثم إنه ولى -فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم. ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
واستعمل محمد بن عمير على همدان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد.
وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان.
فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن محمد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة. ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها.
وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه. قال أبو زيد: قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال: حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها.