قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هدا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد. فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة. فلم تزل الحرب ببن ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا. وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف.
وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخُبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء، كما ذكر محمد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه. ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم يجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقلت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمت لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا شهرا، ويقال: خمسة أيام.
قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والغفر فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها. فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير: جئت مودعا إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشُد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة، ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكرْ
فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب.
حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه أهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمرن منه، فما أنسى أرجوزة له:
إني إذا أعرف يومي أصبِرْ ** وإنما يعرف يومَيهِ الحرّْ
إذا بعضُهم يَعرِف ثم يُنكِرْ
فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال: رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية. فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال. فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** وأنما يعرف يومَيْه الحر
ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال!
لو كان قِرني واحدا كفيتهْ
قال ابن صفوان: إي والله وألف.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن أبي المنذر. وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطُلِمنا في الله لم تصبنا زبّاءُ بتّة. أما بعد يا آل الزبير، فلا يرُعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطئا قط إلا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهر كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قِرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير، ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول:
أبى لابن سلمى أنه غيرُ خالد ** ملاقي المنايا أيَّ صَرْفٍ تيمَّما
فلستُ بمُبتاع الحياة بسُبّةٍ ** ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سُلَّما
احملوا على بركة الله.
ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحَجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودُمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وتغاوَوا عليه.
قالا: وصاحت مولاة لنا مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خَزّ. وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكرَ من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
حدثنا عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى ابن الزبير وقد قتل غلاما أسود ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا ابن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان.
أخبار متفرقة
قال أبو جعفر: وفى هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر.
وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال كانت وفاته في سنة أربع وسبعين.
وفيها أيضا وجّه -فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها. ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه. وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن الغيرة ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة. فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقره. ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم فيما ذكر نحوا من ستة آلاف، وأسر ثمانمائة، وأصابوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة.
وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه. فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث.
وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة. فهزم الروم.
وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية، وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا. فهزمهم وكثر القتل فيهم.
وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة. وعلى الكوفة والبصرة -في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسعد وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث. وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وعلى خراسان بكير بن وشاح.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين

ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة

قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاح بن يوسف. فقدمها فيما ذكر فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا.
وفيها كان فيما ذكر نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه.
واستخف فيها بأصحاب رسول الله ، فختم في أعناقهم، فذكر محمد بن عمران بن أبي ذئب حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده.
وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك.
قال ابن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني فيما ذكر الواقدي.
وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها.
ذكر الخبر عن حرب المهلب الأزارقة

وفي هذه السنة وُلِّيَ المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك.