قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسرة، وفيها الطفيل بن عامر بن واثلة، فالتقى هو والطفيل - وكانا صديقين متؤاخيين - فتعارفا، وقد رفع كل منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلًا، ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه. ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلًا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشف ميسرة مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه. ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالًا طويلًا، ثم إنه حذره حتى اتنهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سليمان بن صخر المزني فقتله، وانكشف خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه جعل يناديهم يومئذ: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ". قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده إلى عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنًا. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف. قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحًا ناسكًا عفيفًا. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسًا مع ابن أقيصر الخثعمي، فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله قد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرًا. قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ماله؟ قال: فأخبره بمقالتي؛ فقال إنه ضعيف العقل؛ قال: ثم انصرفنا إلى الري بن عدي بن وتاد. قال: وبعث رجالًا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم. قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال مكن أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسًا كثيرًا فخلى عنهم.
قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلى فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير، قال: كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف: أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدًا له. فذاك ما هو أهوى وأحب؛ وإن كان حيًا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلى إن شاء الله. والسلام.
قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولابد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه. وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفًا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنته. وقال حبيب بن خدرة مولى لبنى هلال بن عامر:
هل أتى فائد عن أيسارنا ** إذ خشينا من عدو خرقا
إذ أتاني الخوف من مأمننا ** فطوينا في سواد أفقا
وسلي هدية يوم هل رأيت ** بشرًا أكرم منا خلقا!
وسليها أعلى العهد لنا ** أو يصيرون علينا حنقا!
ولكم من خلة من قبلها ** قد صرمنا حبلها فانطلقا
قد أصبنا العيش عيش ناعمًا ** وأصبنا العيش عيشًا رنقا
وأصبت الدهر دهرًا اشتهى ** طبقًا منه وألوى طبقا
وشهدت الخيل في ملومة ** ما ترى منهن إلا الحدقا
يتساقون بأطراف القنا ** من نجيع الموت كأسا دهقا
فطراد الخيل قد يؤنقني ** ويرد اللهو عني الأنقا
بمشيح البيض حتى يتركوا ** لسيوف الهند فيها طرقا
فكأني من غد وافقتها ** مثل ما وافق شن طبقا
ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الأزارقة

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري.
ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك
ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريًا وأصحابه من الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوًا من سنة. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت - وجيرفيت مدينة كرمان - فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالًا شديدًا. وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يد المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عند عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فساودرابجرد. وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول الشاعر الأزد وهو يعاتب المهلب:
نقاتل عن قصور درابجرد ** ونجبي للمغيرة والرقاد
وكان الرقاد بن زياد بن همام - رجل من العتيك - كريمًا على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة. وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما أرى لقد اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك. وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، قم جاهدهم أشد الجهاد. وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة؛ والسلام.
فأخرج المهلب بنيه؛ كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم وأخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم. فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانًا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانًا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور. فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم؛ وقال هؤلاء: نحن من بني تميم؟ فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قومًا والله ما يعينك عليهم إلا الله. فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه. وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصر إلى الحجاج فآتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد آتاني كتاب الأمير أصلحه الله. واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فأما أنا فوالله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير - أصلحه الله - فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن الهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرًا لا يستقل منهم شيئًا، ولا
يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يردعونهم به ويكفونهم عنهم. ثم إن رجلًا منهم كان عاملًا لقطرى على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بني ضبة، فقتل رجلًا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطرى، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل! رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى! قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد ربه الكبير، وخلعوا قطريًا، وبايع قطريًا منهم عصابة نحوًا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوًا من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريًا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضأ غدوًا وعشيًا، وقد رجزت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله! والسلام. فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا آتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مأونتهم عليك أشد، والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضًا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضًا. فأناهضهم على تفئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرًا لا يحركهم. ثم إن قطريًا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان. وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالًا شديدًا. ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين. وقال كعب الأشقري - والأشقر بطن من الأزد - يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور. وأيام جيرفت:
يا حفص إن عداني عنكم السفر ** وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية ** والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت ** أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر
علقت خودًا بأعلى الطف منزلها ** في غرفة دونها الأبواب والحجر
درمًا مناكبها ريا مآكمها ** تكاد إذ نهضت بالمشي تنبتر
وقد تركت بشط الزابيين لها ** دارًا بها يسعد البادون والحضر
واخترت دارًا بها حي أسر بهم ** ما زال فيهم لمن تختارهم خير
لما نيت بي بلادي سرت منتجعًا ** وطالب الخير مرتاد ومنتظر
أبا سعيد فإني جئت منتجعًا ** أرجو نوالك لما مسني الضرر
لولا المهلب ما زرنا بلادهم ** ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
فما من الناس من حي علمتهم ** إلا يرى فيهم من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من نداك كما ** تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
إني لأرجو إذا ما فاقه نزلت ** فضلا من الله في كفيك يبتدر
فاجبر أخًا لك أوهى الفقر قوته ** لعله بعد وهي العظم ينجبر
جفا ذوو نسبي عني وأخلقني ** ظني فلله دري كيف آتمر
يا واهب القينة الحسناء سنتها ** كالشمس هر كولة في طرفها فتر
وما تزال بدور منك رائحة ** وآخرون لهم من سيبك الغرر
نماك للمجد أملاك ورثتهم ** شم العرانين في أخلاقهم يسر
ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ** في حين لاحدث في الحرب يتئر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ** فما لأمرهم ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من أحد ** وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على ** مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ** أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم ** فشمر الشيخ لما أعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهم ** حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ** واستنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ** عنه وليس به في مثله قصر
أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ** فيهم صنائع مما كان يدخر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها ** فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت ** وتحتهن ليوث في الوغى وقر
حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ** برامهرمز وافاهم بها الخبر
نعي بشر فجال اليوم وانصدعوا ** إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا
ثم استمر بنا راض ببيعته ** ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا
حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ** شبت لنا ولهم نار لها شرر
نلقي مساعير أبطالًا كأنهم ** جن نقارعهم ما مثلهم بشر
نسقى ونسقيهم سمًا على حنق ** مستأنفي الليل حتى أسفر السحر
قتلى هنالك لا عقل ولا قود ** منا ومنهم دماء سفكها هدر
حتى تنحوا لنا عنها تسوقهم ** منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا