لم يغن عنهم غداة التل كيدهم ** عند الطعان ولا المكر الذي مكروا
باتت كتائبنا تردى مسومةً ** حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا حزانًا بعدما فرحوا ** وحال دونهم الأنهار والجدر
عبوا جنودهم بالسفح إذ نزلوا ** بكازرون فما عزوا ولا ظفروا
وقد لقوا مصدقًا منا بمنزلة ** ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا
بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ** أسد بسفك دماء الناس قد زئروا
لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهم ** فيهم على من يقاسي حربهم صعر
المقدمين إذ ما خيلهم وردت ** والعاطفين إذا ما ضيع الدبر
وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهم ** ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا
والله ما نزلوا يومًا بساحتنا ** إلا أصابهم من حربنا ظفر
ننفيهم با لقنا عن كل منزلة ** تروح منا مساعير وتبتكر
ولوا حذارًا وقد هزوا أسنتنا ** نحو الحروب فما نجاهم الحذر
صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ** ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر
مجرب الحرب ميمون نقيبته ** لا يستخف ولا من رأيه البطر
وفي ثلاث سنين يستديم بنا ** يقارع الحرب أطوارًا ويأتمر
يقول إن غدًا مبد لناظره ** وفي الليالي وفي الأيام معتبر
دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ** إن المحارب يستأني وينتظر
حتى أتته أمور عندها فرج ** وقد تبين ما يأتي وما يذر
لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ** وقد تقاربت الآجال والقدر
سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ** وقبل ذلك كانت بيننا مئر
وزادنا حنقًا قتلى نذكرها ** لا تستفيق عيون كلما ذكروا
إذا ذكرنا جروزًا والذين بها ** قتلى مضى لهم حولان ما قبروا
تأتي علينا حزازات النفوس فما ** نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ** ولا نقيلهم يومًا إذا عثروا
لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ** ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما ** كالبرق يلمع حتى يشخص البصر
على بصائر كل غير تاركها ** كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ** مشي الزوامل تهدي صفهم زمر
وشيخنا حوله منا ململمة ** حي من الأزد فيما نابهم صبر
في موطن يقطع الأبطال منظره ** تشاط فيه نفوس حين تبتكر
مازال منا رجال ثم نضربهم ** بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به ** في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة ** وبيننا ثم من صم القنا كسر
يغشين قتلي وعقري ما بها رمق ** كأنما فوقها الجادي يعتصر
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ** تشفي صدور رجال طالما وتروا
مجاوين بها خيلاُ معقرة ** للطير فيها وفي أجسادهم جزر
في معرك تحسب القتلى بساحته ** أعجاز نخل زفته الريح ينعقر
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ** قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقى الأزد مفظعةً ** يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علنوا ** إذا قرومهم يوم الوغى خطر
فيهم معاقل من عز يلاذ بها ** يومًا إذا شمرت حرب لها درر
حي بأسيافهم يبغون مجدهم ** إن المكارم في المكروه تبتدر
لولا المهلب للجيش الذي وردوا ** أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إن اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ** بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ** دينًا يخالف ما جاءت به النذر
قالت طفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه،
ذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم:
لقد مس منا عبد رب وجنده ** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ** بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ** طريد يدوي ليله غير نائم
إذا فر منا هارب كان وجهه ** طريقًا سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ** به الفلك في لج من البحر دائم
ذكر الخبر عن هلاك قطري وأصحابه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلف الذي حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف. عن يونس بن يزيد - سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشًا من أهل الشام عظيمًا في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطيع لسفيان. فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتد هدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازة وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزًا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد. فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي فقطعت المغفر، وقطعت جلدةً من حلقي وأختلج السيف فأضرب به وجهها. فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتةً، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز. وقال: ما أردت إلى قتل هذه أخزاها الله - فقلت: أو ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله إن كادت لتقتلني؛ قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريًا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء - وقد كان اشتد عطشه - فقال: أعطني شيئًا حتى أسقيك، فقال: ويحك؛ والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتني بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهداه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه. والعلج حينئذ لا يعرف قطريًا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سورة بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله. فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي - وكلهم يزعم أنه قاتله - فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصتلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن محمد - وهو على أهل الكوفة - ولم يأته جعفر لشئ كان بينه وبينه قبل ذلك - وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق. وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج. فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا به إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما - يعني أنه يفرض للصغار في الديوان - وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريًا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره. فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربةً فصرعته، ثم جاؤوني بعد، فأقبلوا يضربونهم بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه، قال: جئت الآن وقد سرحنا بالرأس. فانصرف عنه فقال له أصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه. ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفًا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أيامًا. ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال:
لعمري لقد قام الأصم بخطبة ** لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لأن أعطيت سفيان بيعتي ** وفارقت ديني إنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ** تساوك هزلى مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانب ** بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ** تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كنا مما إن يقدن على الوجى ** لهن بأبواب القباب صهيل
فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم، ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد - أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرًا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام. فلما ولاه غزو ماوراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو. قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على الخراسان ابنه زيادًا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أيامًا، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقيل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس. قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: إقطع يا بكير؛ فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! إعبر ثم يعبر الناس بعدك. فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره. فانتخب بكير فرسانًا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى أمية إلى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة. فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إن قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرًا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: إحرق هذه السفن. وامض إلى مرو فخلع أمية، وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما؛ قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي مارأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلون؛ قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفًا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع؛ قال: فيهلك أمية ومن معه؛ قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالًا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحد من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرًا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون. فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابًا، فقال عتاب في ذلك:
إن الحواضن تلقاها مجففة ** غلب الرقاب على المنسوبة النجب
تركت أمرك من جبن ومن خور ** وجئتنا حمقًا يا ألأم العرب
لما رأيت جبال السغد معرضةً ** وليت موسى ونوحًا عكوة الذنب
وجئت ذيخًا مغذى ما تكلمنا ** وطرت من سعف البحرين كالخرب
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ** تحت الخوافق دون العارض اللجب
يخب بي مشرف عار نواهقه ** يغشى الكتيبة بين العدو والخبب
قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار - وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله. فقدمه أمية في ثمانمائة، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه. فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيع مني، لم تفي لأمية ولم تشكر له صنيعه بك؛ قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدًا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتًا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده. قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية بالناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة - وعارمة جارية بكير - فأحجم، فقال له بكير: لا أبالك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارم فحل يمنعها، فقدم لوائك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يومًا، فحماهم بكير، ثم التقوا يومًا آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس. قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش؛ فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يومًا آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح؛ فحمل حريث من قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، وأتبع حريث بكيرًا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله؛ فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلحة، وأحب ذلك أيضًا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه - وكان أمية يحب العافية - فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أيضًا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يومًا حتى يخرج عن مرو، فأخذ الآمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابًا على باب سنجان، ودخل أمية بالمدينة. قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيًا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير. وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة؛ فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرامائي؛ قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فاستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفًا؛ قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك. فأدى عنه عشرين ألفًا. وكان أمية سهلًا لينًا سخيًا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه؛ قال: وكان مع ذلك ثقيلاُ عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي. وعزل أمية بحيرًا عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه. فضرب عبد الملك بعثًا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليل الأسدي جعالته رجلًا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه فجلس بكير يومًا في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: صلت علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاح بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحمًا فسأله فقال: إنما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرًا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لو لا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان؛ فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل؛ فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرًا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك. فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وإن تكركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز؛ وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذ دخل بكير، وبدل وشمردل ابنا أخيه، فنهضت فخذوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام أمية عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذاوكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيرًا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعك والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة - وهو رأس أهل العالية - ولابن والآن العدوي - وهو يومئذ من رؤساء بني تميم - ليعقوب بن خالد الذهلي: أتقتلونه؟ فلم يجيبوه؛ فقال لبحير: أتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه. فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه - وكان صديقًا لبكير - فاحتضن أمية، وقال: أذكرك الله أيها الأمير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال: عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير؛ قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرًا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك؛ قال: يا بعقوب، ما أعطيته ذمة، ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من أسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني أسد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد؛ فقال بحير: لا والله يابن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت من أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء. قال: ثم وجه أمية رجلًا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه؛ فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم إلى أمية. وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك؛ فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو. وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)