قال: منيتنا أمرًا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة. وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة - وكان جريحًا - إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت:
وحامي زياد على رايته ** وفر جدي بني العنبر
فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنًا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال:
علام تلومين من لم يلم ** تطاول ليلك من معصر!
فإن كان أردى أباك السنان ** فقد تلحق الخيل بالمدير
وقد تنطح الخيل تحت العجا ** ج غير البرى ولا المعذر
ونحن منعنا لواء الحريش ** وطاح لواء بني جحدر
فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا:
خلى طفيل على الهم فانشعبا ** وهد ذلك ركني هدة عجبا
وابني سمية لا أنساهما أبدًا ** فيمن نسيت وكل كان لي نصبا
وأخطأتني المنايا لا تطالعني ** حتى كبرت ولم يتركن لن نشبا
وكنت بعد طفيل كالذي نضبت ** عنه المياه وفاض الماء فأنقضبا
فلا بعير له في الأرض يركبه ** وإن سعى إثر من قد فاته لغبا
وسار من أرض خاقان التي غلبت ** أبناء فارس في أربائها غلبا
ومن سجستان أسباب تزينها ** لك المنية حينًا كان مجتلبا
حتى وردت حياض الموت فانكشفت ** عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا
وغادروك صريعًا رهن معركة ** ترى النسور على القتلى بها عصبا
تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا ** وأسلموا للعدو السبي والسلبا
يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم ** وهم كثير يرون الخزي والحربا
قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقم بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصرة أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، حليف حرب ابن أمية على الكوفة. قال أبو مخنف - كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: إنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام قالأبو مخنف: فحدثن سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح ين يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائنن وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فألقى جحفلته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم. قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها. وأقبل ابن الأشعث منهزمًا إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.
وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث

قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم. قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين.
ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها
ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعدما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق - فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى - فافعل. فعدلت ودخل الناس، فلما دخلى الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث إلا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس. فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتى به عبد الرحمن بن محمد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك وأعظمهم عنك غناء؛ فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه. وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثًا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدى الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثًا. وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعًا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مئة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت الحجاج أيضًا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا. فنزل فكان في عسكره مخندقًا وابن محمد في عسكره مخندقًا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضًا، وأدنى خندقه من صاحبه. واشتد القتال بينهم. فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضى أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماهم. فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعنا جميعًا عنده؛ كلاهما في جند بهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطائهم كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليًا ما دام حيًا، وكان عبد الملك واليًا؛ فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولى القتال، محمد بن مروان وعبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح. خار الله لك فيما ارتأيت. والسلام عليك. فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذاو كذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا. وقال محمد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. قالوا: نرجع العشية، فرجعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم. فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانية. وكان عبد الله بن ذواب السلمي وعمير بن تيجان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس، فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة. وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضًا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن محمد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله مالهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعنى فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس - ومد بها صوته يسمع الناس - وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد ابن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون؛ وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، وق غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر. ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلًا ركينًا وقورًا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن محمد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات؛ كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئًا.