خبر صلح قتيبة مع السغد

وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد.
ذكر الخبر عن ذلك
قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبًا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلًا يكلمه، فأمر قتيبة رجلًا فدنا منه وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنًا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.
غدر نيزك

وفي هذه السنة غدر نيزك فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربًا، فغزاه قتيبة.
ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به
قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي عن أبيه، وعلى بن مجاهد وكليب بن خلف العمي؛ كل قد ذكر شيئًا فألفته؛ وذكر الباهليون شيئًا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته؛ أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعوه ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه؛ وذلك أن العربي بمنزلة الكلب؛ إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئًا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارًا، فلما أعطاه فدية قبلهما ورضي، وهو شديد السطوة فاجر فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه. فلما كان قتيبة بآمل استأذنهفي الرجوع إلى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجهًا إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير؛ فساروا سيرًا شديدًا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به. وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى بلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلًا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم؛ ففعلوا. قال: وأقبل الرسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوز جاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إله أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله. قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفًا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه - وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده - فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفًا إلى البروقان، وقال: أقم بها، ولا تحدث شيئًا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس وأهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه.
خبر فتح الطالقان

وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان - فيما قال بعض أهل الأخبار - فقتل من أهلها مقتلةً عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك
وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه مللك الطالقان وواعده المصير إليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثني أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر. وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف. وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله. وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. وعلى مصر قرة بن قرة بن شريك.
هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج

وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه من السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سليمان
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: خرج الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباد؛ فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبًا من حجرته، وجعل عليهم حرسًا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرًا حسنًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمى بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها. ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهو يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويرى الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة أن نحن قدرنا على أن ننجو مما هاهنا. ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضًا. وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعامًا كثير فأكلوا؛ وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كان هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلًا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ. وخرج المفضل على أثره. ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفنهم وقد هيثوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخًا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل - وعبد الملك أخوه لأمه - وهي بهلة، هندية: لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن. فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم:
فلم أر كالرهط الذين تتابعوا ** على الجذع والحراس غير نيام
مضوا وهم مستقنون أنهم ** على الجذع والحراس غير نيام
وإن منهم إلا يكن جأشه ** بعضب صقيل صارم وحسام
فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه ** كبير ولا رخص العظام غلام
بمثل أبيهم حين تمت لداتهم ** لخمسين قل في جرأة وتمام
ففزع له الحجاج، وذهب معه وهمه أن ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان، ولم يزل الحجاج يظن ببريد ماصنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث. ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبله الخيل، قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فاخذ بهم السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي - وكان كريمًا على سليمان - وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سليمان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابًا من الحجاج متعوذين بك؛ قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدًا وأنا حي. فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن. وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم:
ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب
لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت ** ركابكم بالوهب شرقي منقب
عدلن يمينًا عنهم رمل عالج ** وذات يمين القوم أعلام غرب
فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ** سليمان من أهل اللوى تنأوب
تقر قرار الشمس مما وراءنا ** وتذهب في داج من الليل غيهب
بقوم هم كانوا الملوك هديتهم ** بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب
ولا قمر إلا ضئيلًا كأنه ** سوار حناه صائغ السور مذهب
قال هشام: فأخبرني الحسن ين أبان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسرى بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال: يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد؛ فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله:
ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب
وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان آل المهلب قدموا على سليمان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها. فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبًا للمال الذي ذهب به. وكتب سلمان إلى الوليد: إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي على فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلى، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا أن تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: إبعثني إليه، فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينهم عداوة وحربًا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، أبعث إليه بي، وأرسل معي إبنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه. فأرسل ابنه أيوب معه. وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعًا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سليمان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك. واقرأ الكتاب: لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك. أما بعد يا أمير المؤمنين، فوالله إن كنت لا أظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته أجرته أنك لا تذل جاري، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعًا مطيعًا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت. وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره ألا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل. والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك. وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يومًا من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي. فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سليمان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه. وتكلم يزيد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينسى ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة. فقال: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سليمان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد، وأهل بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب فيهم. فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم. وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب. ورجع يزيد إلى سليمان بن