ثم دخلت سنة أربع وتسعين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية.
وفيها غزا - فيما قيل - عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة.
وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها كانت الرجفة بالشأم.
وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
غزو الشاش وفرغانة

وفيها غزا قُتيبة شاش وفَرْغانة حتى بلغ خَجَنْدة وكاشان، مدينتَيْ فرغانة.
ذكر الخبر عن غزوة قتبية هذه
ذكر علي بن محمد؛ أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين. فلما قطع النهر فرض على أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل. قال: فساروا معه إلى السند، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجنده، فجمع له أهلها. فلقوه فاقتتلوه مرارًا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ففرغ الناس يومًا فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت كاليوم غزة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما أرى من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل إلى جنبه: كلا، نحن كما قال: عوف بن الخرع:
نؤم البلاد لحب اللقا ** ولا نتقي طائرًا حيث طارا
سنيحًا ولا جاريًا بارحًا ** على كل حال نلاقي اليسارا
وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة:
فسل الفوارس في خجن ** دة تحت مرهفة العوالي
هل كنت أجمعهم إذا ** هزموا وأقدم في قتالي
أم كنت أضرب هامة ال عاتي واصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قي س كلها ضخم النوال
وفضلت قيسًا في الندى ** وأبوك في الحجج الخوالي
ولقد تبين عدل حك مك فيهم في كل مال
تمت مروءتكم ونا غى عزكم غلب الجبال
قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وآتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو. وكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة، ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل الشام. وكان محمد وادن لجهم بن زحر، فبعث سليمان بن صعصعة وجهم بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق؛ قال: لا بد منه. قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين.
ولاية عثمان بن حيان المري على المدينة

وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المرّي المدينة واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن ولايته
قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم محمد بن عمر أن عثمان قدم المدينة أميرًا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها دار مروان وهو يقول: محلة والله مظعان، المغرور من غر بك. فاستقضي أبا بكر بن حزم. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذًا العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، واتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما فقطعه، ومنحورًا - وكان من الخوارج - قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول بعد حمد الله: أيها الناس، إن وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا. أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق. هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه. والله ما جربت عراقيًا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم فإني والله لا أوتي بأحد أوى أحدًا منهم، أو إكراه منزلا، ولا أنزله، إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله. ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي. إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان. والله لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولما؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإن خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل. لم يصلحوا على عثمان فلقى منهم الأمرين، وكان أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقدوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان. والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم. ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدًا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم. أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا قط شرًا من الخوف، فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف. والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعضوا على النواجذ، فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم. إنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة. فإن الأمر إنما ينقض شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء. والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد. قال: يقول القاسم بن محمد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة لهكذا. قال محمد بن عمرو: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن زيد، برئت ذمة ممن آوى عراقيًا - وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل يقال له أبو سوادة، من العباد - فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروه، بلغوني مأمني؛ قلت: لا خير لك في الخروج، إن الله يدفع عنا وعنك. قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث أحراسًا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء، وكان الذي سعى بي عدوًا، فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه. قال: فضرب الذي سعى بي عشرين سوطًا. وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب يومًا واحدًا وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل الخبيث. قال محمد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: غنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليًا، فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه فلما فعل في أهل العراق ما فعل. وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر.
ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير

وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير.
ذكر الخبر عن مقتله
وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه معمن خرج عليه. مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان - وكان سعيد، قال الطبري: أظنه أنه لما هرب من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه -: إن سعيدًا عندك فخذه. فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون. واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان ناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم. قال: أبو حصين وهو يحدثنا هذا: الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك، فاطعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استجيب من الله: سيجيئني ما كتب الله لي. قلت: أظنك والله سعيدًا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره. وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل النفاق والشقاق قد لجثوا إلى مكة. فإن رأى أمير المؤمنين يأذن في فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري؛ فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار؛ فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد بن جبير، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبًا من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! إني رأيت في منامي؛ فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير. اذهب حيث شئت لا أطلبك أبدًا؛ فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو، وأبى حتى جاء ذاك؛ فنزلا من الغد، فأرى مثلها، فقيل: ابرأ من دم سعيد فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به. فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه. جيء به مقيدًا فدخل عليه قراء أهل الكوفة. قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟ قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجرة، فنظرت نظرة فأبصرت القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري إياك - وشق والله عليه - فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به أبدًا حتى يعطينا كفيلًا، نخاف أن يغرق نفسه. قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به. قال وهب بن جرير: حدثنا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه يخلى سبيله؛ قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك على؟ قال: عزم على، قال: فطار غضبًا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقًا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقًا! اضربا عنقه، فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طية صغيرة. وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثًا: مرة يفصح بها، وفي الثنتين يقول. مثل ذلك فلا يفصح بها.