تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة وأبلغهم عن عودته من السفر...
على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..
اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت وحزنت كثيرا...
كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما هي ذكريات والدينا رحمهما الله...
لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد أبدا..
وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..
أما الثاني فهو بلا شك رغد...
وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..
وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة لبعض الوقت..
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي وللمفاجأة كان مفتوحا.
رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:
"السلام عليكم".
"مرحبا سامر... وعليكم السلام ورحمة الله".
وكان صوته منهكا:
"كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول".
"سلمك الله".
يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.
سألته:
"ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟"
"نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس".
سألت:
"أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟"
"نعم.. نعم".
قلت:
"تبدو مشغولا".
أجاب:
"أجل.."
قلت:
"حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف.."
"حسنا".
وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.
بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.
على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.
باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..
كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي الموثق... يحوي وثائق هامة... طلب مني الاحتفاظ بها... وأخبرني بأنه مسافر إلى خارج البلاد للاستجمام.
الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج...
هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب...
ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..
عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.
بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)
كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر هستيري.
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد...

******************************