رمضان بين راء رحمته ونون نسيمه كي تستقيم الحياة الإنسانية ، وتبقى محافظة على سرمديتها ، لابد أن تكون حبال المودة بينهم مشدودة ، وروابط المحبة والأخوة بينهم محكمة سديدة ، ولابد أن تكسو علاقاتهم الرحمة ، وأن تتوج معاملاتهم بتاج الشفقة ، فللإيثار في حيّهم موطن ، وللإخلاص في دارهم موضع ، عندها تثمر هذه الحياة عنب السعادة وزهر الأمل ، ويعبق منها أريج الأُلفة والأخوة

تلك هي الحياة التي يجب أن تكون في أيامنا العادية ، ويجب أن تكون أكثر تماسكاً وأعظم وثاقاً في أيام مخصوصة تمتاز بقدسيتها وعظمة أوقاتها ، فكما هو معروف في كل عقيدة أو ملة أن لها أيامها الخاصة بها تقدسها و تخصها بمزيد من الاحترام ، وكذلك هو الحال لدى المسلمين فمن أيامهم المقدسة شهر رمضان المبارك ، هذا الشهر الذي يجب أن تسمو فيه أخلاق المسلمين ما أجمل المسلمين حينما نراهم يعفون عمن ظلمهم ، ويطلبون العفو و السماحة ممن ظلموهم ،و يترفعون عن سفساف الأمور ومحقرات الأفعال ،و يبنون بينهم جسرا من المودة و الحنان ، و يهجرون غلظة القلوب و فظاظة الخطاب ، يحضنون فيه دمعات اليتامى برحمة قلوبهم ، ويروون ظمأ الفقراء وجدب المساكين بعذب أموالهم ، ويزيحون عنهم ستار البؤس وحجاب الشقاء ، ويضيئون لهم مسرح الحياة بمصابيح المواساة وقناديل الإخاء


لا إنسان بدون رحمة ، ولا إنسانية بدون إخاء ، ولا بشرية بدون أخلاق كريمة . وقد أسعفتني مكتبتي بقصة جميلة رائعة ، انسكبت لها مدامعي حزناً على أبطال شخصيتها ، و سها الذهن عن واقعه من عظيم أحداثها، وفي آن واحد ركعت نظراتي أمامها إجلالاً و إكبارا من حكمة سيدها

تعود أحداث هذه القصة إلى أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقد كان يتفقد أحوال رعيته ذات ليلة كما كانت عادته فسمع صوت أطفال أيتام يصرخون ويشكون لأمهم الجوع وقسوة البرد ، وقد أشعلت لهم الأم ناراً ووضعت عليها قدراً وملأته ماءً حتى ينسيهم منظر هذا القدر الجوع ، ويسليهم بخار الماء المتصاعد من القدر فيحسبونه طعاماً شهياً أو وجبة فاخرة ، فنامت أعينهم وتيقظت أحلامهم ثائرة محطمة حواجز الواقع ، ومطلقة العنان لخيال الأطفال الجياع وقد جفت قطرات دموعهم على وجنتيهم كل دمعة منهن تحكي أسى و تروي ألما

فقال عمر للأم : أأدنو أمة الله فقالت : ادن بخير أو دع فإن حالنا لم يعد يقدر حمل المزيد من الأسى ، فقد ملَّ الحزن من آهاتنا – وهي لم تعرف أنه أمير المؤمنين – فجعل عمر يبكي والدموع تسيل على لحيته ، فلم يجد ناطقاً عن قلبه أفصح من لغة الدموع ، ولم يجد مترجماً عن آهات صدره أصدق من أوتار البكاء . فذهب عمر إلى البيت وحمل كيساً من دقيق فقال غلامه أَسْلم : أي أمير المؤمنين أنا أحمل عنك هذا الكيس فقال له عمر: وهل أنت تحمل عني ذنوبي يوم القيامة ، فحمله عمر حتى أتى خيمة الأيتام ، فعجن لهم الدقيق وأوقد لهم النار ، وبدأ ينفخ فيها حتى يقوى لهيبها فينضج الطعام بزمن أقل ووقت أسرع ، وقد كان الدخان يعانق لحيته والثرى يبلل ثوبه ، بعد أن جثا على ركبتيه ليحاور النار في إسراعها وزيادة احتراقها

ولما نضج الطعام أكل الأطفال مع أمهم الصابرة ، والثابتة في تربيتهم ثبوت الجبال الشامخات ، حاول الفقر قهرها لكنها أخضعته بإرادتها ،وحاول الجوع إذلالها فصفعته بعزة نفسها وشموخ جلدها
وبعد أن أكل الجميع قال أسلم : يا أمير المؤمنين هلم بنا إلى البيت فقال عمر : والله لا أفارقهم حتى أراهم يضحكون كما كانوا يبكون ، ولم يغادرهم عمر رضي الله عنه حتى خطت الفرحة أبجديتها على شفاههم ، وحتى بدأت السعادة تعزف ألحانها على قسمات وجوههم


حياتنا إن خلت من معاني الرحمة ، وضمائرنا إن أقفرت من جمل الشفقة ، وقلوبنا إن أفلست من أحرف المحبة فلبئست تلك الحياة


فأرجو من بني قومي في هذا الشهر المبارك أن تتصافح قلوبهم قبل تلاقي أيديهم ، وأن يرحم قويهم ضعيفهم ، وأن يعين المقتدر ذا الحاجة ، و أن يتسع وعاء أخلاقهم لأنواع اختلافاتهم و أشكال نزاعاتهم ، و أطياف وجهات نظراتهم

وأتمنى أن يصحو بنو وطني من رقادهم فلا تفرقهم رياح المذهبية ، ولا تشتتهم عواصف الطائفية ، ولا تمزقهم دعوات الجاهلية ، فوطننا للجميع وحب الوطن للكل