أبا منذر رمت الأمور فقستها ** وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته ** برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ** عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله مذ حج راكبولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة ** كثير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره ** سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقة فيه من السيف خطة ** به رمق حامت عليه الحوائم
فمن هارب منا ومن دائن لنا ** أسير يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر ** ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ** جلائبه ترجو احتواء المغانم
قال: وكان السبل أوصى عند موته ابنّ السائجي حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم؛ فإني ملك ولست بملك؛ إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتلمون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى تردّه إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كلّ حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم. فقال له ابن السائجي: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من ردّ الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قال: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم؛ إني قد جرّبت قوّتكم بقوّتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعًا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضًا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجي الذي أخبر أسد بن عبد الله بمسير خاقان إليه، فكره محاربة أسد.
ذكر الخبر عن مقتل المغيرة بن سعيد ونفر معه

وفي هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم.
ذكر الخبر عن مقتلهم
أما المغيرة بن سعيد، فإنه كان - فيما ذكر - ساحرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، قال: سمعت المغيرة بن سعيد، يقول: لو أردت أن أحيي عادًا أو ثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا لأحييتهم. قال الأعمش: وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور؛ أو نحو هذا من الكلام.
وذكر أبو نعيم، عن النضر بن محمد، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم؛ فكان عندنا، فأمرتُ جاريتي يومًا أن تشتري لي سمكًا بدرههمين، ثم انطلقت أنا والبصري إلى المغيرة بن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قال أفتحبّ أن أخبرك لم سماك أهلك محمدًا؟ قلت: لا، قال: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكًا بدرهمين. قال: فنهضنا عنه. قال أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسري فقتله وصلبه.
وذكر أبو زيد أن أبا بكر بن حفص الزهري، قال: أخبرني محمد بن عقيل، عن سعيد بن مرادابند، مولى عمرو بن حريث، قال: رأيت خالدًا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنًا فكع عنه وتأنّى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنًا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانًا آخرهم فقدم إلى الطنّ مبادرًا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
قال أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانًا أرسل إلى مالك بن أعين الجهني فسأله فصدّقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به - وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان - قال:
ضربت له بين الطريقين لا حبًا ** وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
وألقيته في شبهة حين سالني ** كما اشتبها في الخط سين وشينها
فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
قال أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: خرج المغبرة بن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال:
أخالد لا جزاك الله خيرًا ** وأير في حرامك من أمير
تمنى الفخر في قيس وقسر ** كأنك من سراة بني جرير
وأمك علجة وأبوك وغد ** وما الأذناب عدلًا للصدور
جرير من ذوي يمن أصيل ** كريم الأصل ذو خطر كبير
وأنت زعمت أنك من يزيد ** وقد أدحقتم دحق العبور
وكنت لدى المغيرة عبد سوء ** تبول من المخافة للزئير
وقلت لما أصابك: أطعموني ** شرابًا ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ ** كبير السن ليس بذي نصير
خبر مقتل بهلول بن بشر

وفي هذه السنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل
ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله
ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن بهلولًا كان يتألّه، وكان له قوت دانق، وكان مشهورًا بالبأس عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلًا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية - وهي من السواد - فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك؛ فمضى بهلول في حجّه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدعوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلًا، وأمّروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألّا يمرّوا بأحد إلا أخبروه أنّهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجّههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه بذلك. وأخذوا دوابّ من دوابّ البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخلّ فأعطى خمرًا، قال بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال؛ فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد؛ فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره؛ فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد؛ ويبني البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات؛ لعلنا نقتله فيريح الله منه. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده؛ وأرجو أن أقتل هذا الذي قال لي ما قال وأدرك خالدًا فأقتله؛ وإن تركت هذا وأتيت خالدًا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قال الله عز وجل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة "، قالوا: أنت ورأيك. فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابًا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت؛ وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتى أتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشأم من بني القين في جيش قد وجهوا مددًا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة؛ فإنّ من قتل منهم رجلًا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشأم، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند - وكان الخروج إلى أرض الهند شاقًا عليهم - فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا. فتوجه القيني إليهم في ستمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبّأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا - وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد - وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه؛ فأنفذه. فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله.