قال: ولما أتى يوسف بن عمر البشير، أمر بزيد فصلب بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وزياد النهدي؛ وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بن عباد برأس نصر بن خزيمة، فأمر له يوسف بن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعرييّن برأس معاوية بن إسحاق؛ فقال: أنت قتلته؟ فقال أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته؛ ولكني رأيته فعرفته، فقال: أعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه أن يتم له ألفًا، إلا أنه زعم أنه لم يقتله.
وقد قيل: إن يوسف بن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلًا من بني أمية كتب - فيما ذكر - إلى هشام، إلى يوسف يشتمه ويجهّله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفة يبايع له فألحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن نلم يقبل فقاتله. فكتب يوسف إلى الحكم بن الصلت من آل أبي عقيلل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكًا خرسانيًا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبًا لأهل البيت؛ وأن معه مالًا يريد أن يقويهم به؛ فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجّه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم إلا ثلثمائة أو أقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم؛ قد حذرني خذلانكم فلم أحذر!
وقيل إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه - وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء - عبد قصار كان به، فاستعجل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده؛ ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانًا. وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبًا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وقيل: إن حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف.
فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في أمر يحيى بن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بنى أسد إلى يحيى بن زيد، فقال له: قد قتل أبو، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها. قال: وكيف لي بذلك؟ قال: تتوارى حتى يكفّ عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بن بشر بن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقّه عليك واجب، قال له: أجل؛ ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قال: فقد قتل وهذا ابنه غلامًا حدثًا لا ذنب له؛ وإن علم يوسف بن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قال: نعم وكرامة. فأتاه به فواراه عنده. فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطى الله عهدًا؛ لئن لم تأتني به لأكتبنّ فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور؛ أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدّعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر؛ ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه؛ فكفّ عن طلبه؛ فلما سكن الطلبُ خرج يحيى في نفر من الزيديّة إلى خراسان.
وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال: يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقّل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه؛ والله لو أبدى لي صفحته لعقت خصييه كما عرقت خصيَي أبيه.
وذكر عن رجل من الأنصار قال: لما جىء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال:
ألا يا ناقض الميثا ** ق أبشر بالذي ساكا
نقضت العهد والميثا ** ق قدمًا كان قدماكا
لقد أخلف إبليس ال ** ذي قد كان منّاكا
قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم:
ألا يا شاعر السوء ** لقد أصبحت أفاكا
أشتم ابن رسول الل ** ه يرضي من تولاكا
ألا صبحك الله ** بخزي ثم مساكا
ويوم الحشر لا شك ** بأن النار مثواكا
وقيل: كان خراش بن حوشب بن يزيد الشيباني على شرط يوسف ابن عمر؛ فهو الذي نبش زيدًا، وصلبه، فقال السيد:
بتّ ليلى مسهدا ** ساهر الطرف مقصدا
ولقد قلت قولة ** وأطلت التبلدا
لعن الله حوشبًا وخراشًا ومزيدا
ويزيدًا فإنه ** كان أعتى وأعندا
ألف ألف وألف أل ** ف من اللعن سرمدا
إنهم حاربوا الإل ** ه وآذوا محمدا
شركوا في دم المطه ** ر زيد تعندا
ثم عالوه فوق جذ ** ع صريعًا مجردا
يا خراش بن حوشب ** أنت أشقى الورى غدا
قال أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال: يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولا أخوف بالذنب. هيهات؟ حبيت بالساعد الأشدّ، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق؛ ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم. أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله؛ إلا حكيم بن شريك المحاربي؛ ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم؛ ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم.
وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بن عبد الملك بعثه في خيول أهل الشأم إلى إفريقيّة؛ حيث وقعت الفتنة بالبربر.
وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم.
وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي.
وفيها وجّه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكلذلك قال الواقدي وغيره.
وكانت عمال المصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل؛ إلا أنّ قاضي الكوفة كان - فيما ذكر - في هذه السنة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد

فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بن سيار من الصلح.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
ذكر علي بن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرّقت الترك في غارة بعضها على بعض؛ فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كلّ ما أرادوا.
قال: وكانوا سألوا شروطًا أنكرها أمراء خراسان؛ منها ألّا يعاقب من كان مسلمًا وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدّى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضيّة قاض وشهادة العدول؛ فعاب الناس ذلك على نصر، وكلّموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك؟ فأرسل رسولًا إلى هشام في ذلك؛ فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جُرّبت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك. فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألّف القوم واحمل لهم؛ فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل.
وفادة الحكم بن الصلت على هشام بن عبد الملك

وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام بن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بن سيّار.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه
ذكر علي عن شيوخه، قال: لما طالت ولاية نصر بن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بن عمر إلى هشام حسدًا له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرّح إليها الحكم بن الصلت؛ فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودّتنا أهلَ البيت.
فلما أتى هشامًا كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن علي السغدي، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قال: نعم، وأنا صاحب الترك - قال: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك - فقال: أتعرف الحكم بن الصلت؟ قال: نعم، قال: فما وليَ بخراسان؟ قال: وليَ قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفًا، فأسره الحارث بن سريج، قال: ويحك؟ وكيف أفلت منه؟ قال: عرك أذنه، وقفده وخلّى سبيله. قال: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالًا وبيانًا، فكتب إلى يوسف: إنّ الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخلّ الكناني وعمله.
وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، وأوفد مغراء بن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام.