ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني استأذنه سليمان بن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح أمره؛ فأذن له، ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوّادهم؛ حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشأم وأولى بالخلافة، فاستزلّه الشيطان، فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشأم فانقضوا إليه من كلّ وجه وجند؛ وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفًا إليه، وكتب إلى ابن ههبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالى سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريّهم فتحصّنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردّوا على رسله: إنا مع سليمان على من خالفه. فردّ إليهم: إنّي أحذرّكم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلّوا بأنفسكم؛ ولا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا سنكفّ. ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان الجند؛ فيسلونهم خيولهم وسلاحهم. وبلغه ذلك، فتحرّق عليهم غيظًا. واجتمع إلى سليمان نحوٌ من سبعين ألفًا من أهل الشأم والذّكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبنى زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها. فلما دنا منه مروان قدّم السكسكي في نحو سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدًا، والتقى السكسكي وعيسى، وكلّ واحد منهما فارس بطل، فطّعنا حتى تقصّفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي مقدّم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارسًا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة. فأسره، وانهزمت مقدّمة مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبية، ولم ينزل حتى انتهى إلى سليمان، وقد تعبّأ له، وتهيّأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، وأتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم؛ وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفًا، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألّا يأتوا بأسير إلّا قتلوه إلّا عبدًا مملوكًا، فأحصيَ من قتلاهم يومئذ نيّف على ثلاثين ألفًا.
قال: وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد بن هشام المخزومي - وكان بادنًا كثير اللحم - فأدنيَ إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق؛ أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخرّاء تقاتلني! قال: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرّحم! قال: وتكذب أيضًا! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله. فف وادّعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم.
قال: ومضى سليمان مفلولًا حتى انتهى إلى حمص؛ فانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجّه مروان يوم هزمه قوّادًا وروابط في جريدة خيل، وتقدّم إليهم أن يسبقوا كلّ خبر؛ حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها إلى أن يأتيهم، حنقًا عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى ترمّننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثّل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدّتهم جميعًا نحوًا من ثلثمائة. ثم شخص إلى سليمان ومن تجمّع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلمّوا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعًا. فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطّن نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولّى سليمان على شطرهم معاوية السكسكي، وعلى الشطر الثاني ثبيتًا البهراني. فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرّز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منّس من جبل السمّاق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبية، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى السكسكي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرًا وهو واقف؛ فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منّا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قال: كذبت؛ الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من ستة آلاف.
قال: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر، ونصب عليها نيفًا وثمانين منجنيقًا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربما بيّتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذي يطمعون في إصابة العورة والفرضة منه. فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمّنهم على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه؛ فأجابهم إلى ذلك وقبله. وكانت قصّة الحبشي أنه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم! وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثّلوا به، وأمر بقتل المتسمّي السكسكي والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجّهًا إلى الضحاك.
وأما غير أبي هاشم مخلّد بن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلّد؛ والذي ذكره من ذلك أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربًا؛ حتى صار إلى عبد الله بن عمر، فخرج مع عبد الله بن عمر إلى الضحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضّض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي في بيعتهم الضحاك:
ألم تر أن الله أظهر دينه ** فصلّت قريش خلف بكر بن وائل
فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم؛ فارتحل من ساعته يريد مروان بالشأم.
وذكر أبو عبيدة أن بيهسًا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشأم ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجّهه عاملًا على العراق، وضمّ إليه أجناد الجزيرة، فأقبل حتى نزل سعيد بن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك. قال: فجعل الضحاك لنا ميسان وف إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي. واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بن النعمان.
فأما أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بن عمر صالح الضحاك على أنّ بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفر توثا من أرض الجزيرة.
وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد الشأم، فنزل القادسيّة، وبلغ ذلك ملحان الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلّة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر. وقال ابن خدرة يرثيه وعبد الملك بن علقمة:
كائن كملحان من شار أخي ثقة ** وابن علقمة المستشهد الشاري
من صادق كنت أصفيه مخالصتي ** فباع داري بأعلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ** أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري
وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بني عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحطّ ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزّة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصوور بن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافًا على مروان، فالتقوا بغزّة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيامًا متوالية؛ فقتل المثنى وعزيز وعمرو - وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك - وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد:
أرت للمثنّى يوم غزّة حتفه ** وأذرت عزيرًا بين تلك الجنادل
وعمرًا أزارته المنية بعد ما ** أطافت بمنصور كفات الحبائل
وقال غيلان بن حريث في مدحه ابن هبيرة:
نصرت يوم العين إذ لقيتا ** كنصر داود على جالوتا
فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعًا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعًا، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أيامًا ثم هزمهم، وقتل البرذون بن مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بن حريث:
ويوم روحاء العذيب دففوا ** على ابن مرزوق سمام مزعف
قال: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بن سوّار التغلبي، فوجّهه إليهم، وانحطّ ابن هبيرة يريد واسطًا وعبد الله بن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بن سوّار مغذًا في فرسان أصحابه، حتى نزل الصراة، ولحق به منصور بن جمهور؛ وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصّراة في سنة سبع وعشرين ومائة.
وفي هذه السنة توجّه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظة وقحطبة بن شبيب - فيما ذكر - إلى مكة، فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكًا ومتاعًا كثيرًا، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بن محمد: إنّ هذا مولاك.
وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضًا للأمر. وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه؛ وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدّقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم.
وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره.
وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان من أمره وأمر عبد الله ابن عمر والضحاك الحروري ما قد ذكرت قبل. وكان بخراسان نصر بن سيار وبها من ينازعه فيها كالكرماني والحارث بن سريج.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان

فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بن سريج بخراسان.