خلافة أبي جعفر المنصور
وهو عبد الله بن محمد وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة؛ وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة؛ وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له.
وذكر علي بن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بن عيّاش، قال: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى، وأرسل عيسى بن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكيّة، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكيّة، فقال: أمر يزكي لنا إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحجّ، في منزل من منازل طريق مكة؛ يقال له صفيّة، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فقال علي: حدثني الوليد، عن أبيه، قال: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، قد تقدّمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه.
وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدّم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. عافاك الله وأمتع بك؛ إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغًا لم يبلغه شيء قطّ، لقيني محمد بن الحصين بكتاب من عيسى بن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك؛ ويبارك لك فيما أنت فيه؛ إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيمًا لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصًا على ما يسرّك مني.
وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة؛ وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع. قال: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعًا شديدًا فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال: أتخوّف شرّ عبد الله بن علي وشيعة علي، فقال: لا تخفه؛ فأنا أكفيك أمره إن شاء الله؛ إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان؛ وهم لا يعصونيي. فسرّي عن أبي جعفر ما كان فيه. وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، وردّ أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك واليًا عليها وعلى المدينة لأبي العباس.
وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة، وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس.
وفي هذه السنة قدم عبد الله بن علي على أبي العباس الأنبار، فعقد له أبو العباس على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشأم والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس.
وفي هذه السنة بعث عيسى بن موسى وأبو الجهم يزيد بن زياد أبا غسان إلى عبد الله بن علي ببيعة المنصور، فانصرف عبد الله بن علي بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حرّان.
وأقام الحجّ للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور؛ وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة؛ ومن استخلف عليه حين شخص حاجًا.
وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرى وعملها سليمان بن علي، وعلى قضائها عبّاد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر صالح ابن علي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة
ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
ذكر خبر خروج عبد الله بن علي وهزيمته
فمما كان فيها من ذلك قدوم المنصور أبي جعفر من مكة ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بن موسى قد شخص إلى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، فدخل أبو جعفر الكوفة فصلّى بأهلها الجمعة يوم الجمعة، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم؛ ووافاه أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار وأقام بها، وجمع إليه أطرافه.
وذكر علي بن محمد عن الوليد، عن أبيه، أنّ عيسى بن موسى كان قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدّواوين؛ حتى قدم عليه أبو جعفر الأنبار، فبايع الناس له بالخلافة، ثم لعيسى بن موسى من بعده؛ فسلم عيسى بن موسى إلى أبي جعفر الأمر؛ وقد كان عيسى بن موسى بعث أبا غسّان - واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبي العباس - إلى عبد الله بن علي ببيعة أبي جعفر؛ وذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة لأبي جعفر من بعده، فقدم أبو غسان على عبد الله بن علي بأفواه الدروب، متوجّهًا يريد الروم؛ فلما قدم عليه أبو غسان بوفاة أبي العباس وهو نازل بموضع يقال له دلوك، أمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة فاجتمع إليه القوّاد والجند، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبي العباس، ودعا الناس إلى نفسه؛ وأخبرهم أن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه؛ فأرادهم على المسير إلى مروان بن محمد، وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري؛ فعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت. فقام أبو غانم الطائي وخفاف المروروذي في عدّة من قوّاد أهل خراسان، فشهدوا له بذلك؛ فبايعه أبو غانم وخفاف وأبو الأصبغ وجميع من كان معه من أولئك القوّاد، فيهم حميد بن قحطبة وخفاف الجرجاني وحيّاش بن حبيب ومخارق بن غفار وترارخدا وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، وقد نزل تلّ محمد، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان، وبها مقاتل العكي - وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس - فأراد مقاتلًا على البعية فلم يجبه، وتحصّن منه، فأقام عليه وحصره حتى استنزله من حصنه فقتله.
وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن علي أبا مسلم؛ فلما بلغ عبد الله إقبال أبي مسلم أقام بحرّان، وقال أبو جعفر لأبي مسلم: إنما هو أنا أو أنت؛ فسار أبو مسلم نحو عبد الله بحرّان، وقد جمع إليه الجنود والسلاح، وخندق وجمع إليه الطعام والعلوفة وما يصلحه، ومضى أبو مسلم سائرًا من الأنبار؛ ولم يتخلّف عنه من القوّاد أحد، وبعث على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي؛ وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد قد فارق عبد الله بن علي، وكان عبد الله أراد قتله، وخرج معه أبو إسحاق وأخوه وأبو حميد وأخوه وجماعة من أهل خراسان؛ وكان أبو مسلم استخلف على خراسان حيث شخص خالد بن إبراهيم أبا داود.
قال الهيثم: كان حصار عبد الله بن علي مقاتلًا العكي أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكي أمانًا، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أيامًا يسيرة، ثم وجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي إلى الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتابًا دفعه إلى العكي، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بن علي وأهل الشأم بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما.
وكان عبد الله بن علي خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوًا من سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطه فقتلهم؛ وكتب لحميد بن قحطبة كتابًا ووجّهه إلى حلب، وعليها زفر بن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكّر في كتابه، وقال: إنّ ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففكّ الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناسًا من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي؛ فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بن علي في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على الير فلا يفشينّ سرّي، وليذهب حيث أحبّ.
قال: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابّه فأنعلت، وأنعل أصحابه دوابّهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوّز بهم وبهرج الطريق فأخذ على ناحية من الرصافة؛ رصافة هشام بالشأم، وبالرّصافة يومئذ مولى لعبد الله بن علي يقال له سعيد البربري، فبلغه أنّ حميد بن قحطبة قد خالف عبد الله بن علي، وأخذ في المافزة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه؛ فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله ما لك في قتالي من خير فارجع؛ فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك. فلما سمع كلامه عرف ما قال له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميدًا، فلقيه سعيد البربري مولى عبد الله بن علي، فأخذه فقتله؛ وأقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين، وخندق عليه.
وأقبل أبو مسلم. وكتب أبو جعفر إلى الحسن بن قحطبة - وكان خليفته بأرمينية - أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشأم، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، ولم أوجّه له، ولكن أمير المؤمنين ولّاني الشأم؛ وإنما أريدها؛ فقال من كان مع عبد الله من أهل الشأم لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبي ذراريّنا! ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذراريّنا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بن علي: إنه والله ما يريد الشأم، وما وجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم. قال: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشأم.
قال: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريبًا منهم، وارتحل عبد الله بن علي من عسكره متوجّهًا نحو الشأم، وتحوّل أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن علي في موضعه، وعوّر ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله بن علي نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشأم: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهرًا خمسة أو ستة، وأهل الشأم أكثر فرسانًا وأكمل عدّة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بن خزيمة، فقاتلوه أشهرًا.
قال علي: قال هشام بن عمرو التغلبي: كنت في عسكر أبي مسلم، فتحدث الناس يومًا، فقيل: أيي الناس أشدّ؟ فقال: قولوا حتى أسمع، فقال رجل: أهل خراسان. وقال آخر: أهل الشأم، فقال أبو مسلم: كلّ قوم في دولتهم أشدّ الناس. قال: ثم التقينا، فحمل علينا أصحاب عبد الله بن علي فصدمونا صدمةً أزالونا بها عن مواضعنا، ثم انصرفوا. وشدّ علينا عبد الصمد في خيل مجرّدة، فقتل منا ثمانية عشر رجلًا، ثم رجع في أصحابه، ثم تجمعوا فرموا بأنفسهم: فأزالوا صفّنا وجلنا جولة، فقلت لأبي مسلم: لو حرّكت دابتي حتى أشرف على هذا التلّ فأصبح بالناس، فقد انهزموا! فقال: افعل، قال: قلت: وأنت أيضًا فتحرّك دابتك، فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال، ناد: يا أهل خراسان ارجعوا؛ فإن العاقبة لمن اتقى.
قال: ففعلت، فتراجع الناس، وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال:
من كان ينوي أهله فلا رجع ** فرّ من الموت وفي الموت وقع
قال: وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللًا في الميمنة أو في الميسرة أرسل إلى صاحبها: إنّ في ناحيتك انتشارًا، فاتّق ألّا نؤتى من قبلك؛ فافعل كذا، قدّم خيلك كذا، أو تأخّر كذا إلى موضع كذا، فإنما رسله تختلف إليهم برأيه حتى ينصرف بعضهم عن بعض.
قال: فلما كان يوم الثلاثاء - أو الأربعاء - لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ومائة - أو سبع وثلاثين ومائة - التقوا فاقتتقوا قتالًا شديدًا. فلما رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة - وكان على ميمنته - أن أعر الميمنة، وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم. فلما رأى ذلك أهل الشأم أعروا ميسرتهم، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم. ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشأم، فحملوا عليهم فحطموهم، وجال أهل القلب والميمنة.
قال: وركبهم أهل خراسان، فكانت الهزيمة، فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي - وكان معه: يا بن سراقة، ما ترى؟ قال: أرى والله أن تصبر وتقاتل حتى تموت؛ فإنّ الفرار قبيح بمثلك، وقبل عبته على مروان، فقلت: قبح الله مروان! جزع من الموت ففرّ! قال: فإني آتي العراق، قال: فأنا معك، فانهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا في عسكر عبد الله بن علي، فغضب من ذلك أبو مسلم. ومضى عبد الله بن علي وعبد لصمد بن علي؛ فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فآمنه أبو جعفر، وأما عبد الله بن علي فأتى سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده. وآمن أبو مسلم الناس فلم يقتل أحدًا، وأمر بالكفّ عنهم.
ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بن علي إسماعيل بن علي.
وقد قيل: إن عبد الله بن علي لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بن مرّار العجلي، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقًا، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه.
وأما عبد الله بن علي فلم يلبث بالرّصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بن علي وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زمانًا متوارين.
ذكر خبر قتل أبي مسلم الخراساني
وفي هذه السنة قتل أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك
حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا سلمة بن محارب ومسلم بن المغيرة وسعيد بن أوس وأبو حفص الأزدي والنعمان أبو السري ومحرز بن إبراهيم وغيرهم، أن أبا مسلم كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحجّ - وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة - وإنما أراد أن يصلي بالناس. فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحجّ وقد أذنت له؛ وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أولّيه إقامة الحجّ للناس، فاكتب إلي تستأذنني في الحج؛ فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدّمك. فكتب أبو جعفر إلى أبي العباس يستأذنه في اعلحجّ فأذن له، فوافى الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عامًا يحجّ فيه غير هذا! واضطغنها عليه.
قال علي: قال مسلم بن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك السنة الحسن بن قحطبة. وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بن مسلم بن عروة - وكان أسود مولىً لهم - فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كلّ منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق؛ فكان الصوت له؛ وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه؛ حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك - وضرب جنبه -: يا نيزك، أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة!.
ثم رجع الحديث إلى حديث الأولين. قالوا: لما صدر الناس عن الموسم، نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر، فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزّيه بأمير المؤمنين؛ ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع؛ فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتابًا غليظًا؛ فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة، فقال يزيد بن أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس جنده؛ وهم له أطوع، وله أهيب، وليس معك أحد. فأخذ برأيه، فكان يتأخّر ويتقدّم أبو مسلم، وأمر أبو جعفر أصحابه فقدموا، فاجتمعوا جميعًا وجمع سلاحهم؛ فما كان في عسكره إلّا ستة أذرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له؛ فأتى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة؛ وأتاه أن عبد الله بن علي، فقال له أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما، فقال أبو جعفر: عبد الجبار على شرطي - وكان قبل على شرط أبي العباس - وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما؛ قال: أراهما آثر عندك مني! فغضب أبو جعفر، فقال أبو مسلم: لم أرد كلّ هذا.
قال علي: قال مسلم بن المغيرة: كنت مع الحسن بن قحطبة بأرمينية فلما وجّه أبو مسلم إلى الشأم كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أيامًا، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون إلى القتال وليس بك إلي حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قال: نعم؛ لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودّعك، قال: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إنّي أريد أن ألقي إليك شيئًا لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك؛ فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء؛ قلت: نعم قد فهمت؛ فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشدّ تهمةً منّا لعبد الله بن علي إلّا أنا نرجو واحدةً؛ نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي، وقد قتل منهم من قتل؛ وكان عبد الله بن علي حين خلع خاف أهل خراسان، فقتل منهم سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطته حيّاش بن حبيب فقتلهم.
قال علي: فذكر أبو حفص الأزدي أن أبا مسلم قاتل عبد الله بن علي فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيّره في حظيرة، وأصاب عينًا ومتاعًا وجوهرًا كثيرًا؛ فكان منثورًا في تلك الحظيرة؛ ووكّل بها وبحفظها قائدًا من قوّاده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتّشه، فخرج أصحابي يومًا من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قال: فجاء فاطلع من الباب، وفطنت له فنزعت خفّي وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمّي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلّاني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إنّ في الحظيرة لؤلؤًا منثورًا ودراهم منثورة؛ ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شيء، فزعت خخفي وجوربي؛ فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فأجعل بعضها في خفي وأشدّ بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشّون ولا أفتش، حتى جمعت مالًا، قال: وأما اللؤلؤ فإنّي لم أكن أمسّه.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)