انتبهت للتو على عدم وجوده فالتفت نحو الباب أتأكد من كونه غير موجود... ثم سألت:
"ماذا عن سامر؟؟"
فأجابت دانة:
"يبعث إليك بأحر القبلات.. كان يتمنى أن يحضر معنا ولكن تعرف.. خشينا عليه من السلطات"
وأضاف نوار وهو يضحك:
"إنه مشغول البال الآن!"
انتفض جسمي.. التفت إلى رغد بسرعة... اصطدمت بعينيها بقوة... فارتدّت إلى الوراء وقد ظهر الفزع على وجهها...
سمعت دانة تقول:
"نوّار! اسكت"
فيطلق نوّار الضحكات المرحة ثم يقول مداعبا:
"لكنني لم أفش الخبر بعد!"
تمد دانة يدها من أمامي... وتقرص رجل نوار بلطف, فيستمر بالضحك ثم يوجه سؤاله إليّ:
"ماذا عنك أنت يا وليد؟؟ هل تزوجت أم ليس بعد؟؟"
كانت برهة سريعة... لكنني لمحت فيها كل شيء...
يد دانة وهي تقرص رجل نوّار... حاجبيّ نوّار وهما يرتفعان للأعلى ثم ينخفضان بخجل... ويد رغد... وهي تنقبض وتضطرب...
جاريت نوّار مفتعلا الضحك وقلت:
"ليس بعد!... كما ترى"
وأشرت بيدي إلى ما حولي...
وفي الحقيقة... أنا انفصلت عن خطيبتي السابقة... بعد عودتي للوطن قبل عام وأكثر... ولم أطلع شقيقتي دانة على الخبر إلا لاحقا... وقد حذرتها من إفشائه على مسامع أحد... خصوصا رغد وسامر...
فبعد الذي حصل لم يكن هناك ما هو أفضل من أن أختفي وتختفي أخباري عنهم... وأخبارهم عني..
لم أكن أتصل بهم إلا قليلا للاطمئنان عليهم. كنت أهاتف دانة أغلب المرات وأتجنب التحدث إلى سامر.. أما رغد.. فأصلا لم أكن لأجرؤ حتى على السؤال عنها...
أصدر الطفل صوتا من جديد... وربما كان منقذا لي من نسمة الذكريات التي كادت تلفحني... والتي أبذل قصارى جهدي كي أتناساها... التفت إلى الطفل... ثم إلى دانة وسألت وأنا أكاد أغص بسؤالي:
"هذا... ابنكِ؟؟"
فابتسمت وقالت:
"لا"
فجن جنوني... وابتلعت الغصة مرغما وكدت أختنق بها... وإذا بها تتابع:
"بل هذه ابنتي!"
حملقت فيها... ثم نظرت إلى الطفل... أعني الطفلة... نعم الطفلة... لأن ملامحها ناعمة جدا... وجميلة جدا...
ومددت أصابعي إليها ألمس خدها الناعم...
لكن انتظروا!
أنا لم أفهم...
عدت أنظر إلى دانة وفي فمي عدة أسئلة... فإذا بها تحملق في ابنتها بنظرة عطوفة... ثم تقول:
"أليست جميلة وليد؟؟ سميتها ندى... تيمنا بوالدتنا رحمها الله"
مد نوّار الطفلة إلي وهو يقول:
"سلمي على خالك يا ندى..."
تناولت الطفلة وتأملتها برهة... فشعرت بسرور غريب يجتاح عواطفي... ضممتها إليّ وطبعت قبلة خفيفة على رأسها... وشممت رائحتها الطفولية البريئة...
"ما أرقها وأنعمها!... آه... كيف لم تخبروني عن ولادتها؟؟"
قلت معاتبا دانة فأجابت وهي ترفع حاجبا وتخفض الآخر:
"الاتصال بك ليس مهمة سهلة!"
وأنا أعرف ذلك وأتعمده...
"لم لا نتم حديثنا على المائدة؟؟ إننا نتضور جوعا!"
كان نوّار...
وقفنا كلنا قاصدين التوجه إلى المائدة... وهذه المائدة صغيرة... وقد لا تتسع لنا...
تناولت دانة طفلتها وجالت ببصرها في أرجاء الشقة وسألت:
"أين يمكنني وضع الطفلة؟؟ شقتك تبدو صغيرة!"
فقلت:
"نعم... معذرة فكل شيء صغير هنا... في غرفة النوم... من هنا... تفضلي"
وقدتها إلى غرفة النوم... فوضعت الطفلة على السرير وهمت بالمغادرة...
هنا قلت بصوت منخفض:
"انتظري"
وألقيت نظرة نحو الباب أستوثق من أحد لم يتبعنا... فهمت دانة أنني أرغب في قول شيء بسرية... فنظرت إلي متسائلة... عنها سألت:
"ماذا... عن سامر...؟ أنا لم أفهم"
ابتسمت دانة ابتسامة طفيفة ثم قالت:
"عقد قرانه على لمياء... شقيقة نوّار... قبل أسابيع"
الخبر أربكني وأرسلني إلى قعر الحيرة والتيه... ثم خرجت الكلمة من بين شفتيّ من دون أن أشعر:
"و... رغد؟؟"
ارتسم القلق والألم على وجه دانة ثم قالت:
"مررنا بفترات عصيبة... عصيبة جدا جدا..."
ثم تنهدت وتابعت:
"قررت... الاستقرار عند خالتها... سنقضي هنا أسبوعين ثم نذهب بها إلى الشمال... تستلم إرث والديها وتقيم مع أسرتها هناك.. هذا قرارها الأخير.."
جمدني الذهول... وبقيت محملقا في عيني شقيقتي... أحاول ترتيب ما عرفته من مفاجآت... هذه الساعة...
رأيتها تسير مغادرة الغرفة... فتبعتها وذهني واقف في الغرفة موضعه, توجهت دانة إلى المائدة وأخذت توزع محتويات الأكياس عليها... ثم دعتنا للجلوس... جلست على أقرب كرسي رأيته أمامي... وجلست هي إلى اليسار... ونوّار إلى اليمين... والمقعد الأخير... المقابل لي مباشرة... كان من نصيب رغد...
أنا لست بحاجة لأن أصف لكم... أنا أصلا لا أستطيع أن أصف لكم... سأترككم تتخيلون حالي... كما تشاءون...
انتهينا من العشاء وأنا لم أشعر بطعمه... ربما لم آكل شيئا... لقد كنت أراقب أصابع البطاطا وهي تختفي واحد بعد الآخر... لكنني متأكد من أنني لم أذق منها شيئا...
من الذي يوجد معنا... ويحب البطاطا المقلية لهذا الحد؟؟
من الذي يوجد معنا... ولا يتحدث؟؟
من الذي هنا... ولا أستطيع أن أرفع عيني لأنظر إليه؟؟
يتحرك أمامي... بهدوء... بصمت تام... كأنه غير موجود... لكن وجوده طغى على كل وجود... وعلا فوق كل وجود... ولم يضاهيه أي وجود...
آه...
رغد... صغيرتي...
بعد الفطور, قامت الفتاتان ترفعان الأطباق... وفيما هما كذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة... فتركت رغد ما بيدها وهي تقول:
"أنا سأتفقدها"
وذهبت إلى غرفة النوم, حيث كانت الطفلة موضوعة على السرير...
أتدرون ما الذي خطر ببالي؟؟
أن ألحق بها...
ذهبت خلفها مباشرة... ووقفت عند الباب... وهي لم تنتبه إلي بادئ الأمر... جلست على السرير ورفعت الطفلة وهزتها قليلا... فسكتت الأخيرة ونامت ببساطة!
أعادتها رغد إلى السرير... ثم هبت واقفة... واستدارت فانتبهت لوجودي...
التقت نظراتنا... التي كانت تتحاشى بعضها البعض طيلة الوقت... هذه المرة لم تتهرب أعيننا... بل تعانقت عناقا طويلا... ملتهبا... عميقا...
وبعد حصة النظرات الطويلة تلك... تقدمت باتجاهها وأنا ألهث مضطرب الكيان والجوارح... كذلك كان الاضطراب مجتاحا لرغد... فأصابع يدها تتشابك وتنفصل مرارا...
لما صرت أمامها مباشرة... لا تفصلني عنها غير بضع بوصات... كتمت أنفاسي... ثم أطلقت زفرة حارة... ثم سمعت لساني يقول لا شعوريا:
"... اشتقت إليك... صغيرتي"
لا أعرف من أين خرجت تلك الكلمات... لكنها خرجت... ووصلت على رغد... فإذا بوجهها يضطرب أكثر... وأصابعها ترتجف أكثر...
أطلت التحديق بها... مفتشا عن رد.. فإذا بي أرى حاجبيها ينعقدان ووجها يعبس وإذا بها تشيح به عني وتتنحى جانبا وتسير متجهة إلى الباب...
استدرت إليها ومددت يدي في الهواء وناديتها بصوت هامس راج متلهف:
"صغيرتي"
فإذا بها تلتفت إليّ وتصوب أسهما نارية إلى عينيّ وللمفاجأة تقول:
"إياك أن تناديني هكذا ثانية"
واستدارت لتتابع طريقها في ذات اللحظة التي ظهرت فيها شقيقتي دانة مقبلة إلى الغرفة وفي يدها زجاجة حليب أطفال... نقلت دانة بصرها بيننا ثم تظاهرت بالمرح وقالت وهي تشير للطفلة:
"هل نامت؟ إنه موعد الحليب!"
في نفس الليلة أصرت دانة على أن نقوم بزيارة للمنزل الكبير والذي شعرت بحنين شديد إليه. لم أكن أرغب في دخول ذلك المنزل واسترجاع الذكريات التعيسة فيه غير أنني لم أجد بدا من تنفيذ رغبتها.
ذهبنا إلى المنزل نحن الأربعة, مع الطفلة الصغيرة. ومن أول لحظة وطأت قدماي فيها أرض المنزل داهمتني آلام حادة في كامل جسدي...
بقي نوّار مع ابنته في المجلس, وذهبنا نحن الثلاثة وأقصد بالثلاثة أنا ودانة... ورغد... نجوب أنحاء المنزل...
لما اقتربنا من غرفة رغد السفلية توترت وتوقفت عن السير وتحاشت دخولها...
ولما صعدنا الدرجات رأيتها تتكئ على السياج وكأنها تتذكر لحظات الوقوع والكسر والجبيرة...
ولما دخلنا غرفتها العلوية... علقت هناك...
تابعنا أنا ودانة جولتنا تاركين إياها في غرفتها ربما تتفقد حاجياتها أو تسترجع ذكرياتها...
هذه الغرفة كنت أدخلها كل يوم... أطمئن على طيف صغيرتي بجنون... عندما كنت أقيم هنا وحيدا... بعد رحيلها...
بعد ذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة فنزلت دانة إلى الطابق السفلي وكنت سأتبعها غير أن رجلاي غيرتا وجهتهما وقادتاني إلى... غرفة رغد...
كانت رغد تقف بجانب السرير وعينها تحملقان في الورقة الملصقة على الجدار فوق السرير... تذكرونها؟؟ إنها أول صورة رسمتها صغيرتي لي.. قبل سنين طويلة.. وهي ما تزال طفلة بالكاد تتعلم كيف تمسك القلم...
كيف لي أن أكتشف يومها... ما لم أكتشفه إلا بعد كل تلك السنين...؟؟
أحست رغد بحركتي فالتفتت نحوي فجأة... وإذا بالهلع يجتاحها ويحول وجهها إلى صحراء من الصفار... وأصابعها تضطرب وأنفاسها تتلاحق...
"هل أفزعتك؟؟ أنا آسف صغيرتي"
قلت ذلك محاولا تهدئة روعها غير أن يدها انقبضت بشدة ثم أبعدت عينيها عني وخطت نحوي قاصدة الخروج من الغرفة...
لم أستطع التحمل وأنا أراها تهرب مني... وقفت عند فتحة الباب وسددت الطريق أمامها فوقفت أمامي في حيرة وانفعال ثم رفعت بصرها إلي وأخيرا نطقت:
"تنحّ بعيدا لو سمحت"
وكانت نظرتها أقسى من جملتها... لكني لم أتزحزح ونظرت إليها برجاء فقابلت نظراتي بغضب... همست متوسلا:
"صغيرتي... أرجوك"
فإذا بها تهتف:
"قلت لك لا تنادني هكذا ثانية... لا أسمح لك... وابتعد عن طريقي فورا"
تسمرت مذهولا في مكاني فإذا بها ترفع صوتها آمرة بعصبية:
"ابتعد هيا"
فما كان مني إلا أن تنحيت جانبا وسط الذهول... وتركتها ببساطة تختفي..!

*************