والآخر (سي الشريف) تزوج قبل الاستقلال، و قد يكون له اليوم عدة أولاد وبنات..
فمن منكما ابنة (سي الطاهر)... تلك التي حملتُ اسمها وصية من الجبهة حتى تونس.. ونبت عن أبيها في دار البلدية، لتسجيلها رسمياً في سجلِّ الولادات؟
من منكما تلك الصغيرة التي قبّلتها نيابة عن أبيها، ولا عبتها ودلّلتها نيابة عنه؟

من منكما... أنتِ؟

وبرغم بعض الخطوط المشتركة لملامحكما، كنت أشعر أنَّك أنتِ.. لا تلك.
أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل الأوان بقرابة ما تكون جمعتني بك.
وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريراً لوجهك المحبّب إليّ مسبقاً. لقد كنت نسخة عن (سي طاهر)، نسخة أكثر جاذبية.

كنت أنثى.

ولكن.. أيعقل أن تكوني أنت الطفلة التي رأيتها لآخر مرة في تونس سنة (1962) غداة الاستقلال، عندما رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع بنفسي تفاصيل عودتكم إلى الجزائر؟ بعدما اتصل بي (سي الشريف) من قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد هناك ضرورة لوجوده، والذي اشتراه (سي الطاهر) منذ عدّة سنوات ليهرّب إليه أسرته الصغيرة، عندما أبعدته فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أشهر من السجن قضاها بتهمة التحريض السياسي.

كم كان عمرك وقتها؟
أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحدّ.. وكبرت إلى هذا الحد.. خلال عشرين سنة؟!

رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف بعمرك، وربما أرفض أن أعترف بعمري وبالرجل الذي أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي اليوم غابراً.

ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعة في هذا الزمن وهذا اليوم بالذات؟
يوم انتظرته طويلاً لسبب لا علاقة له بك..
وحسبت له ألف حساب لم تكوني ضمنه..
وتوقَّعت فيه كل المفاجآت إلا أن تكوني أنت مفاجأتي.

فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك اللتين كانتا تتابعان بشيء من الدهشة ارتباكي. فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا أواصل حديثي مع الفتاة الأخرى التي قدّمت لي نفسها. كنت أعرف أنني إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائياً من منكما.. أنتِ.
فقد كان لإحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين سنة، وعليّ فقط أن أتعرف على صاحبته.

سألتها:

- هل لديك قرابة بسي الشريف عبد المولى؟
أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني:
- إنه أبي.. لقد تعذر عليه الحضور اليوم بسبب وصول وفد من الجزائر البارحة.. لقد حدّثنا عنك كثيراً. وقد أثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قرّرنا أن نأتي مكانه اليوم لحضور الافتتاح!

كان كلام تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. الأول أنها لم تكن أنت، والثاني سبب تخلف (سي الشريف).

كنت لاحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع شخصياً، أم سياسياً.. أم تراه كان لسببٍ ما يتحاشى الظهور معي؟

كنت أدري أنّ طرقنا تقاطعت منذ سنين عندما دخل دهاليز اللعبة السياسية، وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الصفوف الأمامية. ورغم ذلك لم يكن بإمكاني أن أتجاهل وجوده معي في المدينة نفسها. فقد كان جزءاً من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي.

ولذا، ولأسباب عاطفية محض، كان الشخصية الجزائرية الوحيدة التي دعوتها.

لم ألتق به منذ عدة سنوات، ولكن أخباره كانت تصلني دائماً منذ عُيِّن، قبل سنتين، ملحقاً في السفارة الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب "الخارجية"، يتطلب كثيراً من الوساطة والأكتاف العريضة.

وكان بإمكان (سي الشريف) أن يشق طريقه إلى هذا المنصب ولأهم منه بماضيه فقط، وباسمه الذي خلّده سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن الماضي لم يكن كافياً بمفرده لضمان الحاضر، وكان عليه أن يتأقلم مع كلّ الرياح للوصول..

خطر ببالي كلّ ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع كل المفاجآت والانفعالات التي هزتني في بضع لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت أن أسلم على فتاة جميلة تزور معرضي لا غير.. فإذا بي أسلّم على ذاكرتي!

وعدت إلى دهشتي الأولى معك..
إلى كل التفاصيل الأولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك اللوحة بالذات التي توقفت طويلاً أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من مكتوب.. أكثر من مصادفة.

أنتِ..
أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها الآخر، وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيه بيدك لتتعرفي على أسماء اللوحات التي تلفت نظرك الأكثر؟

أنتِ..
تراك أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو الأضواء الموجهة نحو اللوحات، وكأنها موجّهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة الأصلية.

أنت إذن..
تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً. تتأملينها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن اسمها في قائمة اللوحات.

ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول الرسّام المجنون داخلي..

من تكونين، أنت الواقفة أمام أحبّ لوحاتي ليّ..؟
رحت أتأملك مرتبكاً وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كلاماً لا يصلني شيء منه.
ما الذي أوقفك أمامها؟
لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت لوحتي الأولى وتمريني الأول في الرسم فقط..
ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون حاضرة في معرضي الأهم هذا، لأنني اعتبرتها برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة.
رسمتها منذ خمس وعشرين سنة، وكان مرَّ على بتر ذراعي اليسرى أقلّ من شهر.
لم تكن محاولة للإبداع ولا لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس. رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظراً ليجيب على ورقة الأستاذ:

"ارسم أقرب منظر إلى نفسك".

إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسلافي الذي قدم مع بعض الأطباء من الدول الاشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية والنفسية فيما بعد.

كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
لم أكن مريضاً ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي الجديدة.