تراك أردت عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي فاجأتني. خشية أن تجرفنا معاً نحو ذاكرة لم نكن مهيأين بعد لتصفحها.
أم فقط كنت تريدين أن تطبّقي برنامج زيارتك عندما نهضت فجأة وقلت:

- أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟

وقفت لمرافقتك.

رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها عندما قلت وأنت تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إليّ:

- أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا لا أقول لك هذا مجاملة، ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا نحن الاثنين نرى الأشياء بإحساس واحد.. وقلّ ما أحسست بهذا تجاه إنتاج جزائري.

ما الذي أربكني الأكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان أصبح لهما فجأة لون آخر تحت الضوء، واللتان كانتا تتأملان فجأة ملامحي وكأنهما تتأملان لوحة أخرى لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح عاطفي وليس انطباعاً فنياً؛ أو هكذا تمنَّيت أو خيّل لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن الاثنين". إنها بالفرنسية تأخذ بعداً موسيقياً عاطفياً فريداً.. حتى إنها عنوان لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من رومنطيقيين في فرنسا ( Nous deux) .

أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج:

- وهل ترسمين؟

قلت:

- لا أنا أكتب.

- وماذا تكتبين؟

- أكتب قصصاً وروايات؟!

- قصصاً وروايات...!

ردّدتها وكأنني لا أصدق ما أسمع.. فقلت وكأنكِ شعرت بإهانة من مسحة العجب أو الشك في صوتي:

- لقد صدرت لي أول رواية منذ سنتين..

سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:

- وبأي لغة تكتبين؟

قلت:

- بالعربية..

- بالعربية؟!

استفزتك دهشتي، وربما أسأت فهمها حين قلت:

- كان يمكن أن أكتب بالفرنسية، ولكن العربية هي لغة قلبي.. ولا يمكن أن أكتب إلا بها.. نحن نكتب باللغة التي نحسّ بها الأشياء.

- ولكنك لا تتحدثين بغير الفرنسية..

- إنها العادة..

قلتها ثم واصلت تأمل اللوحات قبل أن تضيفي:

- المهم.. اللغة التي نتحدث بها لأنفسنا وليست تلك التي نتحدث بها للآخرين!

رحت أتأملك مدهوشاً، وأنا أحاول أن أضع شيئاً من الترتيب في أفكاري..

أيمكن أن تجتمع كلّ هذه المصادفات، في مصادفة واحدة؟ وكلّ هذه الأشياء التي كانت قناعاتي الثابتة.. وأحلامي الوطنية الأولى، في امرأة واحدة.. وأن تكون هذه المرأة هي أنت.. ابنة سي الطاهر لا غير؟ لو تصوَّرت لقاء مدهشاً في حياتي، لما تصورت أكثر إدهاشاً من هذا. إنها أكثر من مصادفة، إنه قدر عجيب، أن تتقاطع طرقنا على هذا النحو، بعد ربع قرن.

أعادني صوتك إلى الواقع وأنت تتوقفين عند إحدى اللوحات:

- أنت قلّ ما ترسم وجوهاً، أليس كذلك؟

وقبل أن أجيبك قلت:

- اسمعي.. لن نتحدث إلى بعض إلا بالعربية.. سأغير عاداتك بعد اليوم..

سألتني بالعربية:

- هل ستقدر؟

أجبتك:

- سأقدر... لأنني سأغير أيضاً عاداتي معك..

أجبتني عندئذ بفرح سري لامرأة اكتشفت فبما بعد أنها تحب الأوامر:

- سأطيعك.. فأنا أحب هذه اللغة.. وأحب إصرارك. ذكِّرني فقط لو حدث ونسيت.

قلت:

- لن أذكرك.. لأنك لن تنسي ذلك!

وكنت أرتكب لحظتها أجمل الحماقات. وأنا أجعل تلك اللغة التي كان لي معها أكثر من صلة عشقية، طرفاً آخر في قصّتنا المعقّدة..
عدت لأسألك بالعربية:

- عمّ كنت تتحدثين منذ قليل؟

قلت:

- كنت أعجب ألا يوجد في معرضك سوى هذه اللوحة التي تمثِّل وجهاً نسائياً.. ألا ترسم وجوهاً؟

قلت:

- كنت في فترة أرسم وجوهاً ثم انتقلت إلى موضوعات أخرى. في الرسم، كلما تقدم عمر الفنان وتجربته، ضاقت به المساحات الصغيرة وبحث عن طرق أخرى للتعبير.

في الحقيقة أنا لا أرسم الوجوه التي أحبها حقاً.. أرسم فقط شيئاً يوحي بها.. طلّتها.. تماوج شعرها.. طرفاً من ثوب امرأة.. أو قطعة من حليّها. تلك التفاصيل التي تعلق في الذاكرة بعدما نفارقها. تلك التي تؤدي إليها دون أن تفضحها تماماً.. فالرسام ليس مصوراً فوتوغرافياً يطارد الواقع.. إنّ آلة تصويره توجد داخله، مخفية في مكان يجهله هو نفسه، ولهذا هو لا يرسم بعينيه، وإنما بذاكرته وخياله.. وبأشياء أخرى.

قلت وعيناك تنظران لامرأة يطغى شقار شعرها على اللوحة ولا يترك مجالاً للون آخر سوى حمرة شفتيها غير البريئتين: