يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التيقرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددةبحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليكأطراف".

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهماوأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كانأبي.

لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطفالغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّالبكاء؟

مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتهاوالتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة فيالحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل،فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيسالذي انتهت لتوِّها من إعداده.

لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّللمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبنفائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارجالأكل.

لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقةمؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكلالجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!

سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي منخدوش طفولتي البعيدة:

-
وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعدوفاة سي الطاهر؟

قلتِ:

-
لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت فيأعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليسلرجل..

كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعدالزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لايعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أنيتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبدالمولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملتهالقادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحينمتضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلىبه طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..

سألتك:

-
من أين تعرفين كلّهذه القصص؟

قلت:

-
منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلىبأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذاسمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولوناهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونسكلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمرالفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ماجعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياًكما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا منالنساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولتهالمعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمةالكاذبة!.

سألتك ضاحكاًً..

-
وهل زرته أنت؟.

قلتِ:

-
طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدةالمنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة،وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير فياختيار اسمي.

توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّراللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:

-
هل يسعدك أنأناديك "حياة"؟

قلت متعجبة..

-
لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!

قلت:

-
إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطراسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحيباسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتكالذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتناالاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.

ضحكتِ.. قلتِ:

-
أتدريأنك لم تخرج أبداً من فترة الثورة، ولذا أنت تشعر برغبة في أن تعطيني اسماً حركياًحتى قبل أن تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل السري.. أيّة مهمة تراك تعدلي؟

ضحكت بدوري لملاحظتك التي فاجأتني بواقعيتها. تراك بدأت تعرفينني إلىهذا الحد؟

قلت:

-
اعلمي أيتها الثوريّة المبتدئة أنه لا بدّ من أكثرمن اختبار. لنكلِّف أحداً بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في مرحلة أولى بدراستك، ومعرفةاستعدادتك الخاصّة!



***