قلت:

-
ولكن لا يمكن أنتكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..

قاطعتني..

-
مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزارقباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس فيابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيسمتناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخربالمجد إذن؟

كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب منالحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:

-
هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟

ضحكت.. وقلت:

-
عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العددمن القتلى. ولم يرفع أيّ مرةقارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتبقصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر مندليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضيةنهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكموناجميعاً!

ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:

-
في انتظار أنيحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجلبحياتك حقاً؟

قلت وأنت تعبثين بأعصابي:

-
المهم أنه مات بعد هذاالكتاب..

-
آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟

قلتوأنت تواصلين مراوغتك:

-
أيّ ماضٍ؟.. نحن قد نكتب أيضاً لنصنع أضرحةلأحلامنا لا غير..

كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلكالرجل قد مرّ بحياتك.. وربما بجسدك أيضاً.

كنت أكاد أشمّ بين السطور رائحةتبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلّ فقرة شيء منه.. من سمرته.. من مذاق قبلته.. من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له..

تراه أبدعفي حبّك حقاً.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتكرجولة وأحلاماً، صنعت لها بعد ذلك ضريحاً جميلاً.. على مقاسه. وأنا، بأيّ منطق رحتأطالع ذلك الكتاب، في زيّ عاشق متنكر ببدلة شرطي أخلاق. وإذا بي أنقّب بين الكلماتوأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف الأحرف الأولى مناسمه هناك.

ذهب تفكيري بعيداً.. تذكّرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنكتقطنين عند عمك منذ عُيّن في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك فيكلّ الفترة التي كنت فيها بمفردك؟

أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعاً ومتعباًمثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن علاقتي بك قد تغيّرت منذ قرأتك وأنني أشكّ في أنأكون قادراً على الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأً لسلاح الكلمات.

قلتِفقط وكأنَّ الأمر لا يعنيك تماماً:

-
كان عليك ألا تقرأني إذن!

أجبتكبحماقة:

-
ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا لا أملك طريقة أخرىلفهمك..

أجبت:

-
مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاً هكذا.. الكاتب إنسان يعيشعلى حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرّخين لا غير.. إنهفي الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاً من الكذب المهذّب. والروائي الناجح هو رجليكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيّة.

ثمّ أضفتِ بعد شيء منالتفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألماً كذلك. قررت يومها ألا أنقّب بعد ذلكفي ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما لأنك أنثى تحترف المراوغة. وربما لأنه ليسهناك من شي يستحقّ الاعتراف.

كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلكالطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإلا ما سرّتعلّقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي بالأسئلة، وتسدرجينها للحديث عن كلّ شيء؟لماذا كلّ تلك الشراهة للمعرفة، كلّ تلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكلّ ما أحببتوما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة عقدتك؟


***


لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟

كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟

كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.
كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.

لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.

كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.
فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.

تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.
وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.

لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.

في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقلام ومشاريع أحلام تجاوزتها الأحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من الزمن.

حملتها تحت إبطي، وكأنني أميّزها عن الأخريات. كنت فجأة على عجل. أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محملاً بفرشاة وألوان أخرى، لأنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراً حجارة "قنطرة الحبال" حجراً.. حجراً. ولكن كان في ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على كلّ شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد الآن... وأين؟

انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباً. وها نحن محاصران بكل مستحيلات الزمان والمكان. ملاحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك الذين لا نعرفهم.. ويعرفوننا. أيّ جنون.. وأيّ قدر كان قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك الارتباك الذي سيفضحني لا محالة.

اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياً، وأن نتفق على برنامج جديد.

كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناً أ، أزورك في