- متى قرأت هذا؟

أجبتك هذه المرة:

- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.

بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:

- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟

قلت:

- إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراً أن " أبولينير" قد خلّد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مولعاً به. إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب. بعضهم خلّد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوماً، وثالث مدينة عبرها مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى الأبد.

سألتني:

- وهل رسمت أنت هذا الجسر؟
- أجبتك متنهداً:

- لا.. لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما ما رأيناه يوماً ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبداً. وهكذا قضى (دولاكروا) عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى (أطلان) عمره في رسم مدينة واحدة.. هي قسنطينة.

لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابلاً لهذه النافذة، لأرسم بشيء من التوتر الاستثنائي لوحتي الأخيرة.
كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى.

وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. لا غير. وأدركت أننا في النهاية لا نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا.

سألتني بلهفة:
- هل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟

قلت وأنا أقودك إلى مرسمي:

- طبعاً.

وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة الملأى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضاً بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت بالانبهار نفسه:

- كم هو رائع كلّ هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسماً قبل اليوم..

كنت أودّ أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل اليوم".

ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكّرتني بمرور امرأة أخرى من هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلتِ فجأة:

- وأين هي اللوحة التي حدّثتني عنها؟

أخذتك إلى الطرف الآخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات الأخرى المبعثرة حولها.

هنالك علاقة عشقية ما بين أيّ رسام ولوحته الأخيرة. هنالك تواطؤ عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء.

فالرسام مثل الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للّون الأبيض، واستدراجه إياه للجنون الإبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء.

كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي اللون الأبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟

ولماذا، رفضت أن أرسم شيئاً بعد لوحتي هذه، وفضّلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، لأشهد لها أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو جدار كما تحال عشيقة عابرة.

أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم تعطنيه حتى النساء؟

ربما.. لأنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماً.. مع الوطن!

قلت وأنت تتأملينها:

- إنها مشابهة للوحتك الأولى "حنين" ولكنها تختلف عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في الألوان الترابية الخام التي استعملتها، إنها تعطيها نضجاً.. وحياة أكثر.

قلت وأنا أنقل نظري منها إليك:

- لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنتِ.

- أنا؟

- أتذكرين يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل لأرسمك. اتّهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت ملامحك. لا تخافي، لن أرسمك أبداً ولن يعرف أحد أنك عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة أيضاً.

وأضفت:

أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا..

قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة كاترين:

- وهي؟

كان في سؤالك شيء من عناد الأطفال وأنانيتهم، وشيء من عناد النساء وغيرتهنّ.
قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من الأرض:

- هل تزعجك هذه اللوحة حقاً؟.

أجبت بشيء من الكذب الواضح:

- لا..

واصلت وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون:

- إذا شئت سأتلفها أمامك..

صحت:

- لا، أأنت مجنون!

قلت بهدوء:

- لست مجنوناً.. وهذه اللوحة لا تعني شيئاً بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة عابرة.

قلتِ بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها:

- إنها مدينتك الأخرى.. أليس كذلك؟

من أين جئت بتلك الرصاصة الأخيرة، لتطلقيها على تلك اللوحة؟

اعترفت لك بتلميح واضح:

- لا.. ليست مدينتي، إنها وسادتي الأخرى.. أو إذا شئت سريري الآخر فقط!

شعرت أن شيئاً من الحمرة قد علا وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على ملامحك التي تغيّرت في لحظات.

ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك:

-... لا يهم!

قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك:

- لا تغاري من هذه اللوحة. هنالك امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه..

نظرت نحو المكان الذي أشرت إليه. كان ثمّة تمثال ينتصب على الأرض في حجم امرأة.

قلت بتعجّب:

- هذه.. لماذا هذه؟