هنالك لوحات هي من السذاجة والبرودة بحيث تخلق عندك عقدة رجولة.. وليس فقط عقدة إبداع!

ورغم ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي وهزائمي السرية أحدٌ.

فالآخرون لن يروا غير انتصاراتي، معلّقة على الجدران في إطار جميل. وأما سلال المهملات، فستبقى دائماً في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة عن الأضواء.

فالذي يجلس أمام مساحة بيضاء للخلق، لا بدّ أن يكون إلهاً أو عليه أن يغّير مهنته.

أأكون إلهاً؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، لم يبق منها قائماً غير الأعمدة الشاهقة المتآكلة الأطراف؟

هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من الداخل كل يوم؟ شهران.. ولا شي سوى رقم هاتفي مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجفّ لها الفرشاة.

وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل.

كنت أدرى جدلية الرسم والكتابة كما أردتها أنت.

كنت تفرغين من الأشياء كلما كتبتِ عنها، وكأنك تقتلينها بالكلمات. وكنت كلما رسمت امتلأت بها أكثر، وكأنني أبعث الحياة في تفاصيلها المنسية. وإذا بي أزداد تعلقاً بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران الذاكرة.

أن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضاً، بعدما أسكنتك قلبي؟

حماقة قرّرت في البدء ألا أرتكبها. ولكنني اكتشفت ليلا بعد آخر عبثية قراري.

لماذا كان الليل هزيمتي؟

ألأنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم لأن للفن طقوس الشهوة السرية التي تولد غالباً ليلاً في ذلك الزمان الخارج عن الزمن..
والخارج عن القانون؟

على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل..
كنت أقترفك..

كنت أرسم بشفتي حدود جسدك.
أرسم برجولتي حدود أنوثتك.
أرسم بأصابعي كل ما لا تصله الفرشاة..

بيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعرّيك وألبسك وأغيّر تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي.
يا امرأة على شاكلة وطن..

امنحيني فرصة بطولة أخرى. دعيني بيدِ واحدة أغير مقاييسك للرجولة ومقاييسك للحب.. ومقاييسك للذّة! كم من الأيدي احتضنتك دون دفء! كم من الأيدي تتالت عليك.. وتركت أظافرها على عنقك، وإمضاءها أسفل جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ.

أحبك السراق والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم تقطع أيديهم.

ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل، أصبحوا ذوي عاهات.

لهم كل شيء، ولا شيء غيرك لي.

أنت لي الليلة ككل ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية؟
أنت لذّتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطق.

كلّ ليلة تسقط قلاعك في يدي، ويستسلم حراسك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري، فأمرر يدي على شعرك الأسود الطويل المبعثر على وسادتي، فترتعشين كطائر بلّله القطر. ثم يستجيب جسدك النائم لي.

كيف حدث هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟

ترى صوتك الذي تعودت عليه حد الإدمان، صوتك الذي كان يأتي شلال حبّ وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة عليّ؟

حبك هاتف يسأل "واشك؟"

يدثرني ليلاً بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه قنديل شوق، عندما تنطفئ الأضواء.

يخاف عليّ من العتمة، يخاف عليّ من وحدتي ومن شيخوختي. فيعيدني إلى الطفولة دون استشارتي. يقصّ عليّ قصصاً يصدّقها الأطفال. يغنّي لي أغنيات ينام لسماعها الأطفال.

تُرى أكان يكذب؟ هل تكذب الأمهات أيضاً؟

هذا ما لا يصدقه الأطفال!

ما الذي أوصلني إلى جنوني؟

ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعل القبل كلّ هذا؟.

أذكر أنني قرأت عن قُبل غيرت عمراً ولم أصدّق..

كيف يمكن لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر طويلاً للجبروت والتفوق أن يقع صريع قبلة واحدة، سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى معبد، صحبة " Lou" المرأة التي أحبها أكثر من كاتب وشاعر في عصرها. كان أحدهم " أبولينير" الذي تغزّل فيها طويلاً وبكاها أمام هذا الجسر نفسه، واجداً في اسمها المطابق بالفرنسية تماماً لاسم الذئب " Loup" دليلاً قاطعا على قدره معها؟

أما (نيتشه) القائل "عندما تزور امرأة لا تنس أن تصحب معك العصا" فقد كان أمامها رجلاً محطما، ضعيفاً، وبدون إرادة. حتى إن أمه قالت يوماً "لم تترك هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثلاثة: إما أن يتزوجها.. أو ينتحر.. أو يصبح مجنوناً!".

كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل أخجل من ضعفي معك، وأنا لست فيلسوفاً للقوة، ولست شمشون الذي فقد شعره وقوته الأسطورية بسبب قبلة؟

هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأ عمري على شفتيك؟

لا أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هل انتحر أم أصبح مجنوناً؟

أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلّبات نفسية متناقضة، كدت ألامس فيها شيئاً يشبه الجنون، ذلك الجنون الذي كان يغريك، وكنت تتغزّلين لي به كثيراً، وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية.

فليكن.. سأعترف لك اليوم، بعد كل تلك السنوات، أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل.
أكان عشقاً فقط، أم لأهديك لا شعورياً اللعبة التي لم تكوني قد حصلت عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به.

حدث كثيراً وقتها، أن استعدت قصتي معك فصلا فصلا.

كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو لي حبك قصة أسطورية أكبر منك ومني. شيئاً ربما كان مقدراً مسبقاً منذ قرون، منذ.. كانت قسنطينة مدينة تدعى (سيرتا).

ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجلاً استوقفتك ذاكرته وأغراك جنونه بقصة ما؟

ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما، تحلمين بارتكابها في كتاب قادم؟

ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "الإجرامي" فيك، فأذكر أنني كنت أيضاً نسخة عن والدك. وأنني بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى الأبد ذاك الجسر السري الذي كان يجمعنا.

آنذاك، كنت أقرر الاعتذار منك. وأستيقظ من نومي وأتجه إلى مرسمي. أجلس طويلاً أمام لوحتك البيضاء وأتساءل: من أين أبدأك؟

أتأمل طويلاً صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها دون إهداء. أكتشف أن وجهك لا علاقة له بالصورة. فكيف أضع عمراً لوجهك الجديد والقديم معاً. كيف أنقل عنك نسخة دون أن أخونك؟

أتذكر وسط ارتباكي ( ليوناردو دافنشي)، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادراً على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان نفسه. بأي يد تراه رسم (الجوكندا) ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن أرسمك أنا؟

ماذا لو كنت المرأة التي لا ترسم إلا باليد اليسرى، تلك التي لم تعد يدي؟

خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس لأتفرج عليك عساني أكتشف أخيراً سرك. فربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهمك.