في ذلك العام.. كان النصرللملائكة.

قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كلامك، وربما أيضا للهروب منك إلىالله. أما قلت "العبادة درعنا السرية".

قلت سأحتمي من سهامك بالإيمانإذن..

رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في المدينةنفسها.

كم من الأيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول.. أحاول بترويض جسدي على الجوع أن أروّضه على الحرمان منك أيضاً.

كنت أريد أنأستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منكوحدك.

كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماً أنا، مكانته الأولى قبلك. هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب.

أعترف أنني نجحت فيذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أبداً.

كنت أقع في فخّ آخر لحبك. وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش بتوقيتك لا غير.

كنت أجلس إلى طاولةالإفطار معك. وأصوم وأفطر معك.
أتسحّر وأمسك عن الأكل معك، أتناول نفس أطباقكالرمضانية، وأتسحّر بك.. لا غير.

لم أكن أفعل شيئاً سوى التوحّد معك في كلّشي دون علمي.

كنت في النهاية كالوطن. كان كلّ شيء يؤدي إليكإذن..

مثله كان حبّك متواصلاً حتى بصدّه وبصمته.

مثله كان حبك حاضراًبإيمانه وبفكره.

فهل العبادة تواصل أيضاً؟


***


انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموّي العابر، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه.

فقد كان في ذاكرتي ماعدا حزيران 67، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران 71 الذي قضيتبعضه في سجن للتحقيق والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهمبعد..

أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن (الكدية) الذي دخلته يوماً في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي 1945 حيث تمّتمحاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية.

أيّ حزيران كان الأكثر ظلماً،وأية تجربة كانت الأكثر ألماً؟

أصبحت أتحاشى طرح هذه الأسئلة، منذ اليومالذي أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن.

الوطن الذي أصبح سجناًلا عنوان معروفاً لزنزانته؛ لا اسم رسمياً لسجنه؛ ولا تهمة واضحة لمساجينه، والذيأصبحت أُقاد إليه فجراً، معصوب العينين محاطاً بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولةأيضاً. شرف ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا.

هل توقعت يوم كنت شاباًبحماسه وعنفوانه وتطرف أحلامه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجرّدني فيهجزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزجّ بي في زنزانة (فردية هذهالمرة) زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المرّة..

الثورة التي سبق أن جرّدتنيمن ذراعي!

أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيّر من ذلك الشهر الذيقضم الكثير من سعادتي على مرّ السنوات.

تراني في ذلك العام تحرّشت بالقدرأكثر، ليردّ على تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلّت بي في شهرواحد؟

أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي لا تأتي سوى دفعةواحدة "كي تجِي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطّع السلاسل".

كانت تلك عبثيّةالحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظّ الذي لم تكنتتوقّعه.

ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كلّ السلاسلالتي كنت مشدوداً إليها، معتقداً أنها أقوى من أن تكسرها شعرة!

قبلها لمأنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعةكشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سلاسلالأحلام، وسحبت من تحتي سجاد الأمان.

تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ستّسنوات، تعود اليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهدّ السقف عليّ، بعدما اعتقدت أنني فيحزيران 82 دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق شيء واحدقائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط..

كنت أجهل حين ذاك المادةالأولى في قانون الحياة:

"
إن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء.. لاغير".


***


كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة، ومذاق اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرّة واحدة.

وكنت أعيش بين خبريْن: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية.

كان قدري يتربّص بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف، وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون عربي.. جاء ينزل بي عدّة طوابق في سلّم اليأس.

أذكر أن خبراً صغيراً انفرد بي وقتها وغطّى على بقية الأخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحراً بطلقات ناريّة، احتجاجاً على اجتياح إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض أن يتقاسم هواءه مع إسرائيل..

كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، ألم مميّز فريد المرارة.

فعندما لا يجد شاعر شيئاً يحتجّ به سوى موته.. ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضاً علينا.

ذهب قلبي طوال تلك الأيام عند زياد..

كان قديماً يقول: "الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعاً بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحراً أيضاً بطريقة أخرى احتجاجاً على خيبة أخرى..

تراه قالها يومها من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟

كنت أستمع إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل عدواه إليّ. فأقول له مازحاً: "يمكنني أن أسرد عليك أيضاً عشرات الأسماء لشعراء لم يموتوا في الصيف!".

فيضحك ويردّ: "طبعاً.. هناك أيضاً من يموتون بين صيفينْ! " فلا أملك إلا أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم!".

عاد زياد إلى الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه الأيام؟

في أية مدينة.. في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة للموت؟

منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك الحين؟

لم أكن قلقاً عليه حتى الآن. فقد عاش دائماً وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجلاً يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه بالجملة.