لماذا قبلت إهانته يومها، دون رد؟ لماذا لمأصفعه بيدي الثانية غير المبتورة وأرمي له بمخطوطه؟

ألأنني احترمت فيه شجاعةالأشجار ووحدتها، في زمن كانت فيه الأقلام سنابل تنحني أمام أول ريح؟

واقفاًعرفت زياد.. وواقفاً غادرني.

أما مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أيّ تعليقهذه المرة.
لقد أصبح بيننا _منذ ذلك الحين_ تواطؤ الغابات... واليومصمتها.

فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحت أقلّب ذلك الدفتر وأعدّصفحاته وأتصفحها بعيني ناشر. وإذ بحماس مفاجئ يدبّ في قلبي ويغطّي على بقيةالأحاسيس. وقرار جنوني يسكنني.

سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية، قدأسمّيها "الأشجار" أو "مسودات رجل أحبك".. أو عنواناً آخر قد أعثر عليه أثناءذلك.

المهم.. أن تصدر هذه الخواطر الأخيرة لزياد. أن أمنحه عمراً آخر لا صيففيه.. فهكذا ينتقم الشعراء دائماً من القدر الذي يطاردهم كما يطارد الصيفالفراشات..

إنهم يتحوّلون إلى دواوين شعر. فمن يقتل الكلمات؟


***


أنقذني دفتر زياد من اليأس دون أنأدري..

منحني مشاريع لأيام كانت فارغة من أيمشروع. فقد حدث في تلك الأيامأن قضيت ساعات بأكملها وأنا أنسخ قصيدة، أو أبحث عن عنوان لأخرى، وأحاول ترتيب فوضىتلك الخواطر والمقاطع المبعثرة، لوضعها في سياق صالحٍ للنشر.

كنت أشعر بلذّةومرارة معاً..

لذّة الانحياز للفراشات، وبعث الحياة في كلماتٍ وحدي أملك حقوأدها في مفكرة، أو منحها الخلود في كتاب.

ومرارة أخرى..

مرارةالتنقيب في أوراق شاعر مات، والتجول في دورته الدموية، في نبضه وحزنه ونشوته، ودخولعالمه المغلق السري دون تصريح ولا رخصة منه، والتصرف نيابة عنه في الاختيار وفيالإضافة والحذف.

أحقاً كنت أملك صلاحية كهذه..؟ ومن يمكن أن يدّعي أنه لسببأو لآخر موكّل بمهمة كهذه؟

ولكن من يجرؤ أيضاً على الحكم بالموت على كلماتالآخرين، ويقرر الاستحواذ عليها وحده؟

كنت أدري في أعماقي، أنه إذا كان لموتالشعراء والكتّاب نكهة حزن إضافية، تميزهم عن موت الآخرين، فربما تُعزى لكونهموحدهم عندما يموتون يتركون على طاولتهم ككل المبدعين، رؤوس أقلام.. رؤوس أحلام،ومسودات أشياء لم تكتمل.

ولذا فإن موتهم يحرجنا.. بقدر مايحزننا.

أما الناس العاديون، فهم يحملون أحلامهم وهمومهم ومشاعرهم فوقهم. إنهم يلبسونها كل يوم مع ابتسامتهم، وكآبتهم، وضحكتهم، وأحاديثهم، فتموت أسرارهممعهم.

في البدء، كان سر زياد يحرجني، قبل أن يستدرجني إلى البوح، وإذابكتاباته تخلق عندي رغبة لا تقاوم للكتابة.

رغبة كانت تزداد في تلك المراتالتي كنت أشعر أن كلماته لا تطال أعماقي، وأنها أقصر من جرحي. ربما لأنه كان يجهلالنصف الآخر للقصة، تلك التي كنت أعرفها وحدي.

متى ولدت فكرة هذاالكتاب؟

ترى في تلك الفترة التي قضيتها محاصراً بإرث زياد الشعريّ، في ذلكاللقاء غير المتوقع لي مع الأدب والمخطوطات التي انفصلت عنها منذ انفصالي عنوظيفتي.. منذ عدة سنوات في الجزائر؟

أم في لقائي غير المتوقع الآخر، معمدينة حجز لي القدر نفسه موعداً متأخراً معها؟

أكان يمكن لي أن أجد نفسيوجهاً لوجه مع قسنطينة، دون سابق إنذار، دون أن تنفجر داخلي الدهشة، شلالات شوقوجنون وخيبة..

فتجرفني الكلمات.. إلى حيث أنا!




الفصل الخامس




مازلت
أذكر ذلك السبت العجيب.. عندما رن الهاتف ذلك المساء بتوقيت نشرة الأخبار.

كان سي الشريف على الخط بحرارة وشوق أسعداني في البداية، وأخرجاني من رتابة صمتي الليلي ووحدته.

كان صوته عندي عيداً بحد ذاته والصلة الوحيدة التي ظلت تربطني بك، بعدما سدّت كل الطرق الموصلة إليك.

وكنت أستبشر خيراً به. إنه يحمل دائماً احتمال لقاءٍ بك بطريقة أو بأخرى.
ولكنه هذه المرة كان يحمل لي أكثر من هذا..

راح سي الشريف يعتذر أولاً عن انقطاعه عني منذ سهرتنا الأخيرة، بسبب مشاغله الكثيرة، وزيارات المسؤولين التي لا تتوقف إلى باريس.. قبل أن يضيف:

"إنني لم أنسك طوال هذه الفترة.. لقد علّقت لوحتك في الصالون وأصبحت أتقاسم معك البيت.. أتدري، لقد تركت التفاتتك تلك أثراً كبيراً في نفسي، وخلقت لي أكثر من حاسد.. وكل مرة لا بد أن أشرح للآخرين صداقتنا وعلاقتنا التي تعود إلى أيام الشباب".

كنت أستمع له وكان القلب قد ذهب بحماقة على عجل إليك..

كان يكفي أن أعرف أن تلك المكالمة تأتي من بيتٍ أنتِ فيه، لأعود عاشقاً مبتدئاً بكل انفعالات العشّاق وحماقاتهم.

ولكن صوته أعادني إلى الواقع عندما سألني:

- أتدري لماذا طلبتك الليلة؟ إنني قررت أن أصحبك معي إلى قسنطينة.. لقد أهديتني لوحة عن قسنطينة وأنا سأهديك سفرة إليها..

صحت متعجّباً:

- قسنطينة.. لماذا قسنطينة؟

قال وكأنه يزفّ لي بشرى:

- لحضور عرس ابنة أخي الطاهر..

ثم أضاف بعد شيء من التفكير.

- .. ربما تذكرها. لقد حضرت افتتاح معرضك منذ شهور مع ابنتي ناديا..

شعرت فجأة أن صوتي انفصل عن جسدي، وأنني عاجز عن أن أجيب بكلمة واحدة.

أيمكن للكلمات أن تنزل صاعقة على شخص بهذه الطريقة؟

أيمكن للجسد أن يصبح إثر كلمة، عاجزاً عن الإمساك بسماعة؟
يحدث في لحظات كهذه، أن أتذكر فجأة أنني أملك يداً واحدة..
سحبت بقدمي كرسياً مجاوراً وحلست عليه.

وربما لاحظ سي الشريف صمتي وحدوث شيء ما.. فقطع ذهولي قائلاً:

- يا خويا.. ما الذي يخيفك في سفرٍ كهذا؟ لقد جاء ذكرك منذ أيام في جلسة مع بعض الأصدقاء في الأمن، وأكدوا لي أنه لا توجد أية تعليمات في شأنك، وأن بإمكانك أن تزور الجزائر متى شئت. لقد تغيرت الأمور كثيراً منذ مجيئك، ولا بد أن تعود إلى الجزائر ولو في زيارة خاطفة.. إنني أتحمل مسؤولية عودتك.. ستسافر معي وعلى حسابي.. فما الذي يقلقك إلى هذا الحد؟

أجبته وأنا أبحث عن مخرج لتوتري:

- الحقيقة أنني لست مستعداً نفسياً بعد لزيارة كهذه.. وأفضّل أن تكون في ظروف أخرى..