أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطاراتالعربية.

وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاءالأول.. مع ذلك المطار.

وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجةجزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة:

"
واش.. مازلت تنقّل فيالطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفكهنا..!".

شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّببي.

وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورهاومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟

هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس.

كان يحضرلزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التيما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسمالعائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بناتو لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي.

أكتشف اليوم، أن هذاالرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهموتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير.

أكنتأجهل هذا؟ لا!

ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعرأن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازليالداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلكاللحظة.

عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي).

كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنتأشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانتتلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدورالذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسانالذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي.

تُراه لهذاأيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلةالتي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر.



فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كلمقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغروأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر..

ترى لأنه هو الذي يحملحقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتيوكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته معهذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر..

أم تراهاقسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتنيبوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثينسنة؟

نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟

هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتافالعريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّارالشنطة.. والبؤساء.

أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أنتتأملني؟

سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتىيعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر".

وكنت أنا غائبها الذي لميعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر..

ولكن قسنطينة لم تكن قدسمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراثالعربي!

لم أنم تلك الليلة..
أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجةحسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كانسبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟

أم أنالسبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي علىجدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادةتلغي كل شيء عداها؟

ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام منيتوسّد ذاكرته؟

مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيلكندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبييطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء فيالبيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرفالبعيدة.

أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليهأبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادةأخرى..

وبعدها لا شيء..

توقّف اهتمامه بي ليبدأاهتمامه بأشياء أخرى،ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنهمنذ مدة.

أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد منقراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم.

أكاد أرى موكباً آخر يعود بعدأسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل.
ثم تلكالليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة.

لم يسألني ليلتهاإلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمرهبسنوات.

كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظلنفسه بالأسئلة.

سألني:

- ..
وأنا؟

وأجبته بالذهولنفسه:

-
مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني..

فقال وكأنه يتقمّص فجأةصوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ:

-
عندك على روحك.. آ خالد..

وأجهشبالبكاء.

ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً.
كنت أعتقد أنه وحده قادرعلى شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي.

اليوم.. بعد كل هذا العمر،بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّةالأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.

هنالك أوطان لا أمومةلها.. أوطان شبيهة بالآباء.


***





لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من الصباح.