فتركته يتحدث.. ويعري أمامي هذا الوطن الذي كنت كسوته حنيناًوعشقاً وجنوناً.
أكان يخاف عليّ من خيبتي،ويخشى أن يفقد فرحة عودتي إليه وإلىهذا الوطن مرة أخرى، عندما كان يتوقف أحياناً عن الحديث لينتقل بي إلى موضوع آخر؟كأن يستدرجني مثلاً بطريقة غير مباشرة إلى الدين وإلى التقوى والإيمان. ويغرينيبالتوبة، وكأن وجودي في فرنسا بحد ذاته قد أصبح ذنبا وكفراً.

أهذا هوحسان؟.

لم أمنع نفسي ساعتها من الابتسام وأنا أتذكر أنني أحضرت له معيزجاجتيْ ويسكي كالعادة..
تساءلت ليلتها وأنا في فراشي عن ذنوبي. حاولت أنألخصها، أن أحصرها.. فلم أجدها أكبر من ذنوب غيري، بل وربما وجدتها أقلبدرجات..

لم أكن مجرماً.. ولا مقامراً.. ولا كافرا.. ولا كاذباً.. ولاسكّيراً.. ولا خائناً..
لم تكن لي زوجة ولا سرير شرعي استبدلت بهآخر.

خمسون سنة من الوحدة. نصفها تماماً ما يمكن أن أسمّيه "السنواتالمعطوبة" تلك التي قضيتها بذراعٍ واحدة، مشوّه الجسد والأحلام.

كم أحببت منالنساء؟. لم أعد أذكر. منذ حبّي الأول لتلك الجارة اليهودية التي أغريتها. إلى تلكالممرضة التونسية التي أغرتني. إلى نساء أخريات.. لم أعد أذكر أسماءهن ولا ملامحهن،تناوبن على سريري لأسباب جسدية محض، وذهبن محملات بي لأبقى فارغاًًمنهن..


وجئتِ أنتِ..
أكبر ذنوبي على الإطلاق كنت أنتِ. المرأةالوحيدة التي لم أمتلكها، والذنب الوحيد الذي لم أقترفه حقاً.
لقد كانت ذنوبيمعك، هي ما يمكن أن أسميه "ذنوب اليد اليمنى".. اليد الوحيدة التي رسمتك بها.. واستحضرتك بها.. واغتصبتك بها.. وهما!

فهل سيعاقبني الله على ذنوب يدٍ لميترك لي سواها!؟
لا أذكر من قال: "ليس الفضيلة تجنّب الرذيلة، الفضيلة في ألاتشتهيها!

وأعتقد أنني بهذا المفهوم فقط.. لم أكن رجلاً فاضلاً.
فقد كانلا بد ألا أشتهيك أنتِ.. وألا أبدأ رذيلتي معك. كان لحبك طعم المحرمات والمقدساتالتي يجب تجنّبها، والتي كنت أنزلق نحوها دون تفكير.

لقد كان الأمر المدهشحقاً في قصتي معك، أن تكون المبررات التي جعلتني أحبك، هي التي كان يجب أن تجعلنيأعدل عن حبك. ولهذا ربما كنت أحبك وأعدل عن حبك.. أكثر من مرة في اليوم. وبالتطرفنفسه كل مرة.

وأنا لا أفعل شيئاً في النهاية هنا، سوى البحث عن حدٍ لهذاالمدّ والجزر العاطفي الذي أعيشه معك كل لحظة.
كنت أدري أن العاشق مثل المدمن،لا يمكن أن يقرر بمفرده الشفاء من دائه، وأنه مثله يشعر أنه ينزل تدريجياً كل يومأكثر نحو الهاوية. ولكنه لا يمكن أن يقف على رجليه ويهرب، مادام لم يصل إلى أبعدنقطة في الجحيم، ويلامس بنفسه قعر الخيبة والمرارة القصوى.

وكنت سعيداً فيتلك الليلة..
تلك السعادة الغامضة المرة، لأنني كنت أدري أن كل شي سوف يحسم فياليومين القادمين، وأنني بطريقة أو بأخرى سأنتهي منك.

كانت زوجة حسان في تلكالسهرة منهمكة في إعداد نفسها للحدث الهام، ولمرافقة الموكب النسائي في الغد إلىالحمام، ثم إلى ليلة الحنة.

وكانت كثيرة الحركة ومشغولة عنا وعن أولادهابهمومها النسائية، وبما ستأخذه في حقيبتها من ثياب للحمام، حيث ستستعرض النساء مثلالعادة كل شيء حتى ثيابهن الداخلية.. ليتظاهرن بغناهنّ الكاذب في معظم الأحيان.. أوليقنعن أنفسهن فقط، أنهن مازلن برغم كل شيء قادرات على إغراء رجل، تماماً مثل تلكالعروس التي يرافقنها.. والتي يتأمّلنها بحسد سريّ.

فليكن.. غداً تبدأ طقوسأفراحك.. وينتهي ذلك الزمن الذي سرقناه من الزمن.

أجمل الأحلام إذن سيدتي فيانتظار غدك.

ولتصبح على خير.. أيها الحزن!


***





يوقظني الحب المضاد في هذا الصباح الصيفي.. ويرمي بي في الشوارع.

قررت حال استيقاظي أن أهرب من البيت، ومن حديث عتيقة الذي لا ينقطع عن مراسيم الحفل، وعن أسماء الشخصيات والعائلات الكبيرة التي جاءت خصيصاً لتحضر ذلك الحدث الذي لم تشهد قسنطينة مثله منذ سنوات.
ولكنها لحقت بي حتى الباب لتواصل حديثها:

- على بالك.. يقال إنهم حضروا كل شيء من فرنسا.. منذ شهر والطائرة تنقل لوازم العرس.. لو رأيت جهاز العروس وما لبسته البارحة.. يا حسرة.. قال لك "واحد عايش في الدنيا.. وواحد يوانس فيه..!"

أجبتها وأنا أغلق خلفي الباب، وكأنني أغلق بعنف أبواب قلبي:

- ما عليهش.. البلد لهم والطائرات أيضاً. ويمكنهم أن يجلبوا إليه كما أخذوا منه ما شاؤوا!

أين أهرب؟

ها أنا أوصدت الباب خلفي، وإذا لا شي أمامي.. سواي.

رميت بخطاي دون تفكير وسط أفواج المارة الذين يجوبون الشوارع هكذا كل يوم دون جهة محددة.

هنا.. أنت تملك الخيار بين أن تمشي، أو تتكئ على جدار، أو تجلس في مقهى لتتأمل الذين يمشون أو يتكئون أمامك.. على حائط الرصيف المقابل..

رحت أمشي..

شعرت في لحظة ما، أننا نطوف جميعاً حول هذه المدينة الصخرة، دون أن ندري تماماً.. ماذا يجب أن نفعل بغضبنا، ماذا يجب أن نفعل ببؤسنا.. وعلى من نرمي هذا الحصى الذي امتلأت به جيوبنا الفارغة.

من الأوْلى بالرّجم في هذا الوطن؟ من؟ ذلك الجالس فوق الجميع.. أم أولئك الجالسون فوقنا؟

حضرني لحظتها عنوان رواية لمالك حداد.. "الأصفار تدور حول نفسها".

تمنيت لو أنني قرأتها، عساني أجد تفسيراً لكل هذه الدوائر التي تحولنا إليها.

ثم قادتني أفكاري إلى مشهد شاهدته يوماً في تونس لجمل مغمض العينين، يدور دون توقف في ساحة (سيدي بوسعيد)، ليستخرج الماء من بئر أمام متعة السواح ودهشتهم.

استوقفني يومها عيناه اللتان وضعوا عليهما غمامة ليتوهم أنه يمشي إلى الأمام دائماً، ويموت دون أن يكتشف أنه كان يدور في حلقة مفرغة.. وأنه قضى عمره دائراً حول نفسه!

ترانا أصبحنا ذلك الجمل الذي لا يكاد ينتهي من دورة حتى يبدأ أخرى تدور به بطريقة أو بأخرى حول همومه الصغيرة اليومية؟

تُرى هذه الجرائد التي تحمل لنا أكياساً من الوعود بغدٍ أفضل، ليست سوى رباط عينين، يخفي عنا صدمة الواقع وفجيعة الفقر والبؤس الحتمي الذي أصبح لأول مرة يتربص بنصف هذا الشعب؟

وأنا.. تراني لم أعد أعرف المشي إلى الأمام في خط مستقيم لا يعود بي تلقائياً إلى الوراء.. إلى هذا الوطن الذاكرة؟

وهذا الوطن.. من أين له هذه القدرة الخارقة على لَيّ المستقيمات، وتحويلها إلى دائرة.. وأصفار!

ها هي الذاكرة سياج دائري يحيط بي من كل جانب.
تطوّقني أول ما أضع قدمي خارج البيت. وفي كل اتجاه أسلكه تمشي إلى جواري الذكريات البعيدة..

فأمشي نحو الماضي مغمض العينين.. أبحث عن المقاهي القديمة تلك التي كان لكل عالم أو وجيه مجلسه الخاص فيها، حيث كانت تعد القهوة على الوجاق الحجري وتقدم بالجزوة.. ويخجل نادل أن يلاحقك بطلباته. كان يكفيه شرف وجودك عنده.

في ذلك الزمن كان لابن باديس المقهى الذي كان يتوقف عنده، وهو في طريقه إلى المدرسة. كان اسمه (مقهى بن بامينة).

وكان هنالك (مقهى بو عرعور) حيث كان مجلس بلعطّار وباشتارزي وحيث كنت ألمح أبي أحياناً وأنا أمر بهذا