لم تكن تتوقع وقتها، أن عمرنا سيكون أعجب من سنوات شبابنابكثير!



غداً سيكون عرسكِ إذن..
وعبثاً أحاول أن أنسىذلك، وأمشي في شوارع قسنطينة، يسلّمني زقاق إلى آخر.. وذاكرة إلى أخرى.

أماقلتِ إنك لي مادمنا في هذه المدينة؟

أين تكونين الآن إذن؟ في أي شارع.. فيأي زقاق من هذه المدينة المتشعّبة الطرقات والأزقة كقلبك، والتي تذكّرني بحضوركوغيابك الدائم، وتشبهك حد الارتباك؟

لستِ لي..

أدري أنهم يعدّونكالآن لليلة حبك القادمة. يعدّون جسدك لرجل آخر ليس أنا. بينما أهيم أنا على جرحيلأنسى الذي يحدث هناك.

مليئاً كان يومك، كيوم عروس، وفارغاً كان يومي، كيومموظّف متقاعد.

منذ زمان أخذ كلّ واحد منا طريقاً مخالفاً للآخر. وها نحننعيش بمفّكرتين متناقضتينْ، إحداهما للفرح وأخرى للحزن. فكيف أنسى ذلك؟

كانتكل الطرق تؤدي إليك، حتى تلك التي سلكتها للنسيان، والتي كنت تتربّصين ليفيها.

كلّ المدارس والكتاتيب العتيقة.. كل المآذن.. كلّ "البيوت المغلقة".. كلّ السجون.. كل المقاهي.. كل الحمامات التي كانت تخرج منها النساء أمامي جاهزاتللحب، كل الواجهات التي تعرض الصيغة والثياب الجاهزة للعرائس. وحتى.. تلك المقبرةالتي ألقيت نفسي في سيارة أجرة، ورحت أبحث فيها عن قبر (أمّا)، وأستعين بسجلاتحارسها لأتعرف على أرقام الممرات التي كانت توصل إليها.. أوصلتني إليك لاغير.

(
أمّا).. لماذا قادتني قدماي إليها ذلك اليوم بالذات، في ليلة عرسكبالذات؟ أرحت أزورها فقط.. أم رحت أدفن جوارها امرأة أخرى توهمّتها يوماًأمي؟

عند قبرها الرخامي البسيط مثلها، البارد كقدرها.. والكثير الغباركقلبي، تسمّرت قدماي، وتجمّدت تلك الدموع التي خبأتها لها منذ سنوات الصقيعوالخيبة.

ها هي ذي (أمّا).. شبر من التراب، لوحة رخامية تخفي كل ما كنت أملكمن كنوز. صدر الأمومة الممتلئ.. رائحتها.. خصلات شعرها المحنّاة.. طلّتها.. ضحكتها.. حزنها.. ووصاياها الدائمة.. "عندك يا خالد يا ابني..".

(
أمّأ) عوّضتها بألف امرأة أخرى.. ولم أكبر.

عوّضت صدرها بألف صدر أجمل.. ولمأرتوِ. عوّضت حبها بأكثر من قصة حب.. ولم أشف.
كانت عطراً غير قابل للتكرار. لوحة غير قابلة للتقليد ولا للتزوير.
فلماذا في لحظة جنون تصوّرت أنك امرأة طبقالأصل عنها؟ لماذا رحت أطالبك بأشياء لا تفهمينها، وبدور لن تطاليه؟

هذاالحجر الرخاميّ الذي أقف عنده أرحم بي منك.
لو بكيت الآن أمامه.. لأجهش بدورهبالبكاء.
لو توسّدت حجره البارد، لصعد من تحته ما يكفي من الدفء لمواساتي.
لوناديته (يا أمّا..) لأجابني ترابه مفجوعاً "واش بيك آ ميمة..؟".

ولكن كنتأخاف حتى على تراب (أمّا) من العذاب، هي التي كانت حياتها مواسم للفجائع لاغير.

كنت أخاف عليها حتى بعد موتها من الألم، وأحاول كلّما زرتها أن اخفيعنها ذراعي المبتورة.

ماذا لو كان للموتى عيون أيضاً؟

ماذا لو كانتالمقابر لا تنام.. كم كان يلزمني من الكلام وقتها لأشرح لها كل ما حلّ بيبعدها؟

لم أجهش ساعتها بالبكاء، وأنا أقف أمامها بعد كلّ ذلك العمر.
نحننبكي دائماً فيما بعد.

مرّرت فقط يدي على ذلك الرخام، وكأنني أحاول أن أنزععنه غبار السنين وأعتذر له عن كل ذلك الإهمال.

ثم رفعت يدي الوحيدة لأقرأفاتحة على ذلك القبر..

بدا لي وقتها ذلك الموقف، وكأنه موقف سريالي. وبدتيدي الوحيدة الممدودة للفاتحة وكأنها تطلب الرحمة بدل أن تعطيها..

فتنهّدت.. وأخفيت يدي.

ألقيتها داخل جيب سترتي.. وألقيت بخطاي خارج مدينة التراب.. والرخام.


***


كان ترقب حسان وزوجته للعرس، واستعداداتهما الدائمة له، للقاء كل الذين سيحضرونه من شخصيات وعائلات كبيرة، يجعلني أستمع لهما أحياناً، وكأنني أستمع إلى أطفال يتحدثون عن "سيرك"، سيحلّ بمدينة لم يزرها سيرك ولا مهرّجون من قبل.

وكنت لذلك أشفق عليهما.. وأعذرهما.

لقد كانت قسنطينة في النهاية، مدينة لا يحدث فيها شيء ما عدا الأعراس. فتركتهما لفرحتهما ينتظران "السيرك عمَّار"، واحتفظت لنفسي بخيبتي.

كان كل شيء استثنائياً في ذلك اليوم. وكنت أعرف مسبقاً برنامجه من أحاديث السهرة.

سيذهب حسان لقضاء حاجاته في الصباح، ثم يصلّي صلاة الظهر في المسجد، وبعدها سيمر بي صحبة (ناصر) لنذهب جميعاً إلى حضور العرس.

أما عتيقة فقد تأخذ الأولاد وتذهب منذ الصباح لترافق العروس إلى الحلاق. ثم تبقى هناك لتقوم مع نساء أخريات بخدمة الضيوف وإعداد الطاولات.

كنت أشعر برغبةٍ في البقاء في سريري في ذلك الصباح، وعدم مغادرته قبل الظهر، ربما بسبب متاعب البارحة، وربما استعداداً للسهر والمتاعب الأخرى التي تنتظرني في ذلك اليوم..

وربما فقط لأنني لم أعد أدري أين يمكنني أن أذهب، بعدما قضيت أسبوعاً وأنا أهيم على وجهي في تلك المدينة التي كانت تتربّص بذاكرتي في كل شارع. وكنتِ تختبئين لي فيها خلف كل منعطف..

وجدت بعد تفكير قصير، أن السرير هو المكان الوحيد الذي يمكن أن أهرب منك إليه. أو على الأقل ألتقي فيه معك بلذّة وليس بألم.

ولكن..

هل سأجرؤ حقاً على استحضارك اليوم.. في هذه اللحظة التي كنت أدري أنك تتجمّلين فيها استعداداً لرجل آخر؟

هل سأجرؤ على استحضارك في هذا الصباح.. وهل سيغفر لك جسدي حقاً في لحظة نزوة كلّ خياناتك السابقة واللاحقة؟ كان ذلك جنوناً في جنون!!

ولكن أليس هذا الذي كنت تريدينه في النهاية، عندما قلت: "سأكون لك في تلك الليلة..".

كنت أشعر برغبة في امتلاكك في ذلك الصباح.
وكأنني أريد أن أسرق منك كل شيء، قبل أن أفتقدك إلى الأبد. فبعد اليوم لن تكوني لي، وستنتهي هذه اللعبة الموجعة الحمقاء التي لم تكن هوايتي قبلك.

موجعاً كان لقائي معك ذلك الصباح.
فيه كثير من الشراسة والمرارة الغامضة.
فيه كثير من الحقد والشهوة الجنونية.
لو كنتِ لي..
آه لو كنتِ لي ذلك الصباح.. في ذلك السرير الكبير الفارغ البارد دونك. في ذلك البيت الشاسع بذكريات الطفولة المبتورة.. وشهوة الشباب المكبوت الذي مر على عجل.

لو كنت لي.. لامتلكتك كما لم أمتلك امرأة هنا. لاعتصرتك بيدي الوحيدة في لحظة جنون. لحوّلتك إلى قطع.. إلى مواد أولية.. إلى بقايا امرأة.. إلى عجينة تصلح لصنع امرأة.. إلى أي شيء غيرك أنت، أي شيء أقلّ غروراً وكبرياءً.. أقلّ ظلماً وجبروتاً منك.

أنا الذي لم أرفع يدي الوحيدة في وجه امرأة، ربما كنت ضربتك ذلك اليوم حدّ الألم، ثم أحببتك حد الأم، ثم جلست إلى جوار جسدك أعتذر له..

أقبّل كل شيء فيك، أمحو بشفتيّ حمرة أطرافك المخضّبة بالحناء، لأوشّمك بشراسة القُبَل، عساك عندما تستيقظين تكتشفينني مرسوماً على جسدك كالوشم،