ويموت على نغمها بسيوفٍ مزيّنة للقتل، مأخوذاً باللونالأحمر.. وبأناقة قاتله!

من منّا الثور؟ أنتِ أم أنا المُصاب بعمى الألوان،والذي لا يرى الآن غير اللون الأحمر.. لون دمك؟

ثور يدور في حلبة حبّك،بكبرياء حيوان لا يهزم إلا خِدعة، ويدري أنه محكوم عليه بالموتالمسبق.

الواقع أن دمك هذا يربكني، يحرجني، ويملأني تناقضاً.

أما كنتأتحرق دائماً لمعرفة نهاية قصتك معه، هو الذي أخذك مني، تراه أخذ منك كلشيء؟

سؤال كان يشغلني ويسكنني حد الجنون، منذ ذاك اليوم الذي وضعت فيه (زياد) أمامك. ووضعتك أمام قدرك الآخر.
تراك فتحت له قلاعك المحصّنة، وأذللتأبراجك العالية، واستسلمت لإغراء رجولته؟

تراك تركت طفولتك لي، وأنوثتكله؟

ها هو الجواب يأتيني بعد عام من العذاب. ها هو أخيراً لزج.. طريّ.. أحمر.. ورديّ.. عمره لحظات.

ها هو الجواب كما لم أتوقّعه، مقحماً، محرجاً،فلِمَ الحزن؟

ما الذي يؤلمني الأكثر هذه الليلة.. أن أدري أنني ظلمت زياداًبظني، وأنه مات دون أن يتمتع بك، وأنه في النهاية كان هو الأجدر بك الليلة؟
أمأن تكوني فقط، مدينة فتحت اليوم عنوة بأقدام العسكر، ككل مدينة عربية؟

ماالذي يزعجني أكثر الليلة؟ أن أكون قد عرفت لغزك أخيراً، أم كوني أدري أنني لن أعرفعنك شيئاً بعد اليوم، ولو تحدّثت إليك عمراً، ولو قرأتك ألف مرة؟

أكنتِعذراء إذن، وخطاياك حبر على ورق؟

فلماذا أوهمتني إذن بكل تلك الأشياء؟ لماذاأهديتني كتابك وكأنك تهدينني خنجراً للغيرة؟
لماذا علّمتني أن أحبكِ سطراً بعدسطر.. وكذبة بعد أخرى.. وأن أغتصبك على ورق!

فليكن..

عزائي اليوم،أنك من بين كل الخيبات.. كنت خيبتي الأجمل.


***


يسألني حسان: لماذا أنت حزين هذا الصباح؟

أحاول ألا أسأله: ولماذا هو سعيد اليوم؟

أدري أن غياب ناصر ومقاطعته البارحة للعرس، قد عكّر نوعاً ما مزاجه. ولكنه لم يمنعه من أن ينسجم مع أغاني "الفرقاني"، وأن يضحك.. ويحادث كثيراً من الناس الذين لم يلتق بهم من قبل.

كنت ألاحظه. وكنت سعيداً شيئاً ما، لسعادته الساذجة تلك.

كان حسان سعيداً أن تُفتح له أخيراً تلك الأبواب التي قلما تفتح للعامة، وأن يدعى لحضور ذلك العرس الذي يمكنه الآن أن يتحدث عنه في المجالس لأيام؛ ويصفه للآخرين الذين سيلاحقونه بالأسئلة، عن أسماء من حضروا وما قُدِّم من أطباقي.. وما لبست العروس..
ويمكن لزوجته أيضاً أن تنسى أنها استعارت صيغتها والثياب التي حضرت بها العرس من الجيران والأقارب، وتبدأ بدورها في التفاخر على الجميع بما رأته من بذخٍ في ذلك العرس، وكأنها أصبحت فجأة طرفاً فيه، فقط لأنها دعيت للتفرّج على خيرات الآخرين.

قال فجأة:

- إن سي الشريف يدعونا غداً للغداء عنده. لا تنسَ أن تكون في البيت وقت الظهر لنذهب معاً..

قلت له بصوت غائب:

- غداً سأعود إلى باريس.

صاح:

- كيف تعود غداً.. ابقَ معنا أسبوعاً آخر على الأقلّ.. ما الذي ينتظرك هناك؟

حاولت أن أوهمه أن لي بعض الالتزامات، وأنني بدأت أتعب من إقامتي في قسنطينة.

ولكنه راح يلحّ:

- يا أخي عيب.. على الأقل احضر غداء سي الشريف غداً ثم سافر..

أجبته بلهجة قاطعة لم يفهم سببها:

- فرات.. غدوة نروّح.

كان يحلو لي أن أحدّثه بلهجة قسنطينية. كنت أشعر مع كل كلمة ألفظها، أنه قد يمر وقت طويل قبل أن ألفظها مرة أخرى.

قال حسان وكأنه يقنعني بضرورة عدم رفض تلك الدعوة:

- والله سي الشريف ناس ملاح.. مازال برغم منصبه وفيّاً لصداقتنا القديمة. أتدري أن البعض يقول هنا إنه قد يصبح وزيراً. ربما يفرجها الله علينا في ذلك اليوم على يده..

قال حسان هذه الجملة الأخيرة بصوت شبه خافت، وكأنه يقولها لنفسه..

مسكين حسان!

مسكين أخي الذي لم يفرجها الله عليه بعد ذلك. أكان من السذاجة بحيث يجهل أن ذلك العرس هو صفقة لا غير، وأن سي الشريف لا بدّ أن يتلقّى شيئاً ما مقابله. نحن لا نصاهر ضبّاطاً من الدرجة الأولى.. دون نوايا مسبقة.

أما بالنسبة لما يمكن أن يربح حسان من وراء منصب سي الشريف المحتمل.. فمجرد أوهام.

المؤمن يبدأ بنفسه، وقد تمر سنوات قبل أن يصل دور حسان.. وينال بعض ما يطمح إليه من فتات.

سألته مازحاً:

- هل بدأت تحلم أن تصبح أنت أيضاً سفيرا؟

قال وكأن السؤال قد جرحه نوعاً ما:

- يا حسرة يا رجل.. "اللي خطف.. خطف بكري.." أنا لا أريد أكثر من أن أهرب من التعليم، وأن أستلم وظيفة محترمة في أيّة مؤسسة ثقافية أو إعلامية، أية وظيفة أعيش منها أنا وعائلتي حياة شبه عادية.. كيف تريد أن نعيش نحن الثمانية بهذا الدخل؟. أنا عاجز حتى عن أن أشتري سيارة. من أين آتي بالملايين لأشتريها؟. عندما أتذكّر تلك السيارات الفخمة التي كانت مصطفّة أمس في ذلك العرس، أمرض وأفقد شهية التعليم. لقد تعبت من هذه المهنة، أنت لا تشعر بأية مكافأة مادية أو معنوية فيها. لقد تغيّر الزمن الذي "كاد فيه المعلم أن يكون رسولاً".. اليوم حسب تعبير زميل لي "كاد المعلم أن يكون (شيفوناً) وخرقة لا أكثر.

لقد أصبحنا ممسحة للجميع. فالأستاذ يركب الحافلة مع تلاميذه. و "يدزّ" و "يطبّع" مثلهم. ويشتمه الناس أمامهم. ثم يعود مثل زميلي هذا، ليعدّ دروسه ويصحّح الامتحانات في شقّة بغرفتين، يسكنها ثمانية أشخاص وأكثر.

بينما هناك من يملك شقّتين وثلاثاً بحكم وظيفته أو واسطاته.. يمكنه أن يستقبل فيها عشقياته أو يعير مفاتيجها لمن سيفتح له أبواباً أخرى.

صحّة عليك يا خالد.. أنت تعيش بعيدا عن هذه الهموم، في حيّك الراقي بباريس.. ما على بالكش واش صاير في الدنيا.!

آه حسان.. عندما أذكر حديثنا ذلك اليوم، تصبح المرارة غصّة في الحلق، تصبح جرحاً، تصبح دمعا، تصبح ندماً وحسرة.

كان يمكن أن أساعدك أكثر، صحيح.

كنت تقول: "اطلب شيئاً يا خالد مادمت هنا، ألست مجاهداً؟ ألم تفقد ذراعك في هذه الحرب؟ اطلب محلا تجارياً.. اطلب قطعة أرض.. أو شاحنة، إنهم لن يرفضوا لك شيئاً. هذا حقك. وإذا شئت دعه لي لأستفيد منه وأعيش عليه أنا وأولادي.. أنت يحترمونك ويعرفونك، وأما أنا فلا يعرفني أحد. إنه جنون ألا تأخذ حقك من هذا الوطن. إنهم لا يتصدّقون عليك بشيء. أكثر من واحد يحمل شهادة مجاهد وهو لم يقم بشيء في الثورة. أنت تحمل شهادتك على جسدك.."

إيه حسان.. لم تكن تفهم أن هذا هو الفرق الوحيد بيني وبينهم. لم تكن تفهم أنه لم يعد ممكناً اليوم، بعد كل هذه السنوات، وكل هذا العذاب، أن أطأطئ رأسي لأحد.. ولو مقابل أية هبة وطنية.