أحسست في صوتك بشيء من الفرحوالارتباك.. شيء من الدهشة والحزن الغامض. ثم قلتِ فجأة بنبرة عشقية لم أعهدهامنك:

-
خالد.. أحبك.. أتدري هذا؟

وانقطع صوتك فجأة، ليتوحد بصمتيوحزني، ونبقى هكذا لحظات دون كلام. قبل أن تضيفي بشيء من الرجاء:

-
خالد.. قل شيئاً.. لماذا لا تجيب؟

قلت لك بشي من السخرية المرة:

-
لأن رصيفالأزهار لم يعد يجيب..

-
هل تعني أنك لم تعد تحبني؟

أجبتك بصوتغائب:

-
أنا لا أعني شيئاً بالتحديد.. إنه عنوان لرواية أخرى للكاتبنفسه!

ماذا قلت لك بعدها، لا أذكر. من الأرجح أن يكون هذا آخر ما قلته لكقبل أن أضع السمّاعة، ونفترق لعدة سنوات.


***


"
لا تطرقي الباب كل هذا الطرق.. فم أعدهنا".

لا تحاولي أن تعودي إليّ من الأبواب الخلفية، ومن ثقوب الذاكرة،وثنايا الأحلام المطويّة، ومن الشبابيك التي أشرعتها العواصف.

لاتحاولي..

فأنا غادرت ذاكرتي. يوم وقعت على اكتشاف مذهل: لم تكن تلك الذاكرةلي، وإنما كانت ذاكرة مشتركة أتقاسمها معك. ذاكرة يحمل كل منا نسخة منها حتى قبل أننلتقي.

لا تطرقي الباب كل هذا الطرق سيدتي.. فلم يعد لي باب.

لقدتخلّت عني الجدران يوم تخلّيت عنك، وانهار السقف عليّ وأنا أحاول أن أهرّب أشيائيالمبعثرة بعدك.

فلا تدوري هكذا حول بيت كان بيتي.

لا تبحثي عن نافذةتدخلين منها كسارقة. لقد سرقت كلّ شيء منّي، ولم يعد هناك من شيء يستحقّالمغامرة.

لا تطرقي الباب كلّ هذا الطرق الموجع..

هاتفك يدقّ في كهوفالذاكرة الفارغة دونك، ويأتي الصدى موجعاً ومخيفاً.

ألا تدرين أنني أسكن هذاالوادي بعدك، كما يسكن الحصى جوف "وادي الرمال"؟

تمهّلي سيدتيإذن..

تمهّلي وأنت تمرّين على جسور قسنطينة. فأية زلة قدم سترميني بسيلٍ منالحجارة. وأي سهو منك سيرميك هنا عندي لتتحطمي معي.

يا امرأة متنكّرة فيثياب أمي.. في عطر أمي وفي خوف أمي عليّ..

متعب أنا.. كجسور قسنطينة. معلّقأنا مثلها بين صخرتين وبين رصيفين.

فلماذا كل هذا الألم..؟ ولماذا.. أكذبالأمهات أنت، وأحمق العشاق أنا؟

لا تطرقي أبواب قسنطينة الواحد بعد الآخر.. أنا لا أسكن هذه المدينة.. إنها هي التي تسكنني.

لا تبحثي عني فوق جسورها،هي لم تحملني مرة.. وحدي أنا حملتها.

لا تسألي أغانيها عنّي، وتأتني لاهثةبخبرٍ قديم _جديد، وأغنية كانت تغنّى للحزن فصارت تغنّى للأفراح..

"
قالواالعرب قالوا *** ما نعطيوْ صالح ولا مالُو
قالوا العرب هيهات *** ما نعطيوْ صالحباي البايات.."

أعرف عن ظهر قلب ما قاله العرب، وما لم يجرؤوا اليوم علىقوله.

وأدري.. كان "صالح" ثوب حدادك الأول حتى قبل أن تولدي. كان آخر باياتقسنطينة.. وكنت أنا وصيّته الأخيرة: "يا حمودة.. آخ يا وليدي تها الله لي فيالدار.. آه.. آه..".

أي دار يا صالح.. أي دار توصيني بها؟

لقد زرت (سوق العصر) وشاهدت دارك فارغة من ذاكرتها. سرقوا حتى أحجارها، وشبابيكها الحديدية. خرّبوا ممراتها وعبثوا بنقوشها.. وظلّت واقفة، هيكلاً مصفرّاً يبول الصعاليكوالسكارى على جدرانه.

أيّ وطن هذا الذي يبول على ذكرته يا صالح؟

أيوطن هذا؟

ها هي ذي مدينة تلبس حداد رجل لم تعد تذكر اسمه. وها أنت ذي طفلةلا أحد يعرف قرابتها بهذه الجسور..

فانزعي "ملايتك" بعد اليوم.. وارفعي عنوجهك الخمار، ولا تطرقي الباب كل هذا الطرق..

فلم يعد صالح هنا.. ولاأنا.




افترقنا إذن..

الذين قالوا الحب وحده لا يموت، أخطأوا..
والذين كتبوا لنا قصص حب بنهايات جميلة، ليوهمونا أن مجنون ليلى محض استثناء عاطفي.. لا يفهمون شيئاً في قوانين القلب.

إنهم لم يكتبوا حباً، كتبوا لنا أدباً فقط

العشق لا يولد إلا في وسط حقول الألغام، وفي المناطق المحظورة. ولذا ليس انتصاره دائماً في النهايات الرصينة الجميلة..

إنه يموت كما يولد.. في الخراب الجميل فقط!

افترقنا إذن..

فيا خرابي الجميل سلاماً. يا وردة البراكين، ويا ياسمينة نبتت على حرائقي سلاماً.

يا ابنة الزلازل والشروخ الأرضية! لقد كان خرابك الأجمل سيدتي، لقد كان خرابك الأفظع..

قتلت وطناً بأكمله داخلي، تسللت حتى دهاليز ذاكرتي، نسفت كل شيء بعود ثقاب واحد فقط..

من علّمكِ اللعب بشظايا الذاكرة؟ أجيبي!

من أين أتيت هذه المرة _أيضاً_ بكل هذه الأمواج المحرقة من النار. من أين أتيت بكل ما تلا ذلك اليوم من دمار؟

افترقنا إذن..

لم تكوني كاذبة معي.. ولا كنتِ صادقة حقاً. لا كنتِ عاشقة.. ولا كنتِ خائنة حقاً. لا كنتِ ابنتي.. ولا كنتِ أمي حقاً.

كنت فقط كهذا الوطن.. يحمل مع كل شيء ضده.

أتذكرين؟

في ذلك الزمن البعيد، في ذلك الزمن الأول، يوم كنت تحبينني وتبحثين فيّ عن نسخة أخرى لأبيك.

قلت مرة:

- انتظرتك طويلاً.. انتظرتك كثيراً، كما ننتظر الأولياء الصالحين.. كما ننتظر الأنبياء.. لا تكن نبياً مزيفاً يا خالد.. أنا في حاجة إليك!

لاحظت وقتها أنكِ لم تقولي أنا أحبك. قلتِ فقط "أنا في حاجة إليك"..

نحن لا نحب بالضرورة الأنبياء. نحن في حاجة إليهم فقط.. في كل الأزمنة.

أجبتك:

- أنا لم أختر أن أكون نبياً..

قلت مازحة: