تراهم منحوا الجائزة لصورة ذلك الطفل؟ أم لجثة ذلكالكلب؟
وماذا؟ وقد صدرنا إلى العالم مذابحنا على مدى سنوات, وتم إتلاف الحياةالشعورية لأناس أكثر من جثثنا, بعد أن أصبحت في ندرتها أكثر وقعا على أنفسهم من جثةالإنسان؟
أليست كارثة , لو أن ضمير الإنسان المعاصر أصبح حقا يستيقظ عندما يرىجثة كلب يذكره بكلبه, ولا يبدو مهتما بجثة إنسان آخر لا يرى شبها به, ولا قرابةمعه, لأنه من عالم يراه مختلفا.. ومتخلفا عن عالمه. عالم جثث تتقاتل.
شغلتني تلكالأسئلة, حد قراري العودة إلى تلك القرية, بحثا عن جواب في تفاصيل ذلك الموتالمركب.


***



ذات صباح , قصدت رفقة زميل تلك القرية. احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق, بعدم أخذنا بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا فيقبضة حاجز أمني مزور, ينصبه الإرهابيون لاصطياد من يضطر لسلوك تلك الطرقاتبالسيارة, ممن يعملون في " دولة الطاغوت" الكافرة, أي باختصار, أي أحد يملك بطاقةعليها ختم رسمي, ولو كان يعمل زبالا في البلدية, أو أي مخلوق لا تروق له هيئته, فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به, أو يصطحبونه إلى مخابئهم إن كان ممن يحتاجون إلىخدماته.
كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت, وأصبحت مشابهة تماما لحواجزرجال الأمن الحقيقيين , الذين سطا الإرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم, مماأوقع الناس في بلبلة وحيرة. فان هم اطمأنوا إلى حاجز, وأظهروا هوياتهم الحقيقية, قديفاجأون به مزورا ويقتلون , كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه, وقالللعسكريين بمودة:
-
واش.. الكلاب ما همش هنا اليوم؟
فرد عليه أحدهم وهو يطلقعليه النار :
-
إحنا هم الكلاب!
وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشيةوقوعهم في قبضة حاجز مزور, وكان الحاجز لرجال أمن حقيقيين, اتهموا بأنهم إرهابيون, وعوملوا على هذا الأساس, بعد أن أصبح الإرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية, مدعين أنهم موظفو دولة.. أو مجندون في الخدمة العسكرية.
وهكذا كان الناس, حفاظاعلى سلامتهم, يتنقلون بلا هوية في جيوبهم, ولا بطاقة عمل ولا أوراق ثبوتية فيحوزتهم, ولا مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم.

كان وصولي إلىتلك القرية بسلام, وبدون حادث يستحق الذكر, إنجازا تفاءلت به, لولا أنني لم أجدشيئا مما كنت أبحث عنه هناك.
كانت قلوب الناس موصدة, كبيوت موتاهم.
وكنت هناكتائها, في مهب الأسئلة: كيف أستدل على ذلك البيت, والبيوت جميعها متشابهة فيبؤسها؟
كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل , وقد غسلوا الجدرانخوفا من ثرثرتها, في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟
ومن أسأل عن ذلكالطفل, والأجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية اليتامى تكفلتبه. وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى. وآخر يجزم أن الطفل اختفىملتاعا, بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد. وآخر لم يسمع بوجودهذا الطفل. أو لعله لا يريد أن يسمع بوجودي, ولا صبر له على فضولي.
الصدمةتجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا, شيئا يغرقنا في الصمت. لاأحد يثرثر هنا. حتىالجدران التي كانت تهذي بالقتلة, أصابها الخرس, مذ طليت بماء الكلس.

أحزننيأن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم. والذين كانوا يتحدثونإليهم, ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلاهة ليتفرجوا عليهم, وكأنهمقادمون إليهم من عالم آخر, حتى انك لا تدري بماذا تكلمهم. لكأن لغتهم ما عادت لغتك, بل هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر. لغة المذهول من أمره مذ اكتشفقدره.
التضاريس هي التي تختار قدرك, عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافيةعند أقدام الجبال, وعلى مشارف الغابات والأدغال. أنت حتما على مرمى قدر منحتفك.
في عزلتهم عن العالم,أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملامح واحدة, يدفنونفيها في اليوم ذاته, اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قريةبأكملها.

انه موت, في عبثيته,مستنسخ من حياتهم الرتيبة , التي يتناولون فيهاكل يوم وجبة واحدة من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة , ويرتادون مقهى واحدا, يدخن فيه الكبار والصغار السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي, وعندما يمرضون يذهبون إلى مستوصف ( الدشرة), حيث الطبيب الواحد , والدواء الواحدلكل الأمراض.