القرنفل البلدي, الذي كان يتفتح في طفولتك, باقات من القرنفلاتالصغيرة, بذلك الشذى الذي ما عدت تشتمه في الورود, مذ قصفت أعمارها إكراماً لقصابيالعالم المتحضر.
في مدينة كان هنري ميلر يتجول فيها جائعاً, وفي حالةانتصاب,متنقلاً وسط حدائق" , التويلري" غير مبصر سوى أجساد نسائية من رخام, عساهاتغادر عريها الرخامي وترافقه إلى فندق تشرده, لم أكن أنا سوى الرؤوس المعلقة في أيمكان, لأي سبب كان.
حتى مومسات (بيغال) المنتشرات على أرصفة الليل, في هيئة لايصمد أمام غواية التلصص على عريهن رجل, لم أستطع وأنا أعبر شارعهن أن أقيم معأجسادهن العارية تحت معاطف الفرو, أية علاقة فضول. فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلتتفاصيله الصحافة العالمية لمومسات البؤس العربي. مشهد لو رآه زوربا لأجهش راقصاً, لنساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية, لا تخرج من حرب إلالتبتكر لرجالها أخرى. وريثما يكبر الجيل الآتي من الشهداء, كانت تفرغ البيوت منرجالها, ومن أثاثها, ومن لقمة عيشها, لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.
لكن لاتهتم , زوربا.. يا صديق الأرامل لا تحزن. الجميلات الصغيرات لا يترملن. إنهن يزينقصور سادة الحروب العربية. وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلاً لشرف الوطن, كما ماتأزواجهن فداءً له. وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات فاضلات يمثلنالاتحاد النسائي, بإمكانها أن تبقى معلقة على الأبواب يوماً كاملاً تأكيداً لطهارةاليد التي قطعتها, كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة " المتعة مقابلالغذاء", وتجرأوا على تمني شيئاً آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهم لتزيين كعكةعيد ميلاد القائد.
يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدناً جديدة نترك ذاكرتنا فيالمطار. كلً حيث يذهب, يقصد مدينة محملاً بأخرى, ويقيم مع آخرين في مدن لا يتقاسمهابالضرورة معهم, ويتجول في خراب وحده يراه.
"
وما دمت خربت بيتك في هذا الركنالصغير من العالم فسيلاحقك الخراب أينما حللت". ولكنك لم تكن قد سمعت بعد بقول ذلكالشاعر, ولا كنت تظن أن حقيبتك محملة بهذا الكم من الجماجم. و إلا ما كنتسافرت.
فاكتب إذن, أنت الذي مازلت لا تدري بعد إن كانت الكتابة فعل تستر أم فعلانفضاح, إذا كانت فعل قتل أو فعل انبعاث.
تتمنى لو أطلقت النار على كل الطغاةبجملة, لكن من تنازل أيها الكاتب بقلم, في نزال كل غرمائك فيه يتربعون على عروش منالجماجم.

كان عليك قبل أن تهجم على الأوراق أن تختار كلماتك بعناية ملاكم , أن تصوب ضرباتك إلى القتلة, بأدنى قدر ممكن من المجازفة. أن تكتسب تلك الموهبة. موهبة كتابة كتب غيبية, تسعى إلى سلامة صاحبها وراءته, غير معني بما تسببه روايةرديئة من أضرار, ولا جبن كاتب لا يمكن لقارئ أن يأتمنه على حياته أو يوصيه ثأراًلدمه.
من تكون.. لتحاول الثأر لكل الدم العربي بكتاب. وحده الحبر شبهة أيهاالجالس على الشبهات. أكتب لتنظيف مرآبك من خردة العمر, كما ينظف محارب سلاحاًقديماً.
مازال للقتلة متسع من الجاه.ولا وقت لك إلا ساعته, تدق بعده في معصمك.. تمد يدك بما يلزمها من القوة للكتابة.
وبرغم هذا, قد لا تجد الشجاعة لتقص عليهما حل بتلك اللوحة!

بعد يومين من إقامتي عند فرانسواز, هاتفت مراد حتى لايقيم الدنيا ويقعدها بحثاً عني في باريس, يعد أن تركت الفندق دون إخبارهبذلك.
تحاشيت طبعاً إعطاءه تفاصيل عن إقامتي الجديدة. واقترحت عليه أن نلتقي فياليوم التالي.
لكنه فاجأني بذلك الخبر الذي ما توقعته أبداً حين قال ليمعتذراً:
انتهى الحب. وها أنا أرتعد عارياً كجذع شجرة جرداء.
-
لن أستطيع أنأراك غداً. سأكون مشغولاً بانتظار ناصر عبد المولى. سيحضر من ألمانيا للإقامة عنديبعض الوقت.. لكن إن شئت سنلتقي جميعاً بعد غد.
سألته غير مصدق:
-
أيناصر؟
-
ناصر.. ابن الشهيد الطاهر عبد المولى. أنت تدري أنه يقيم منذ سنتين فيألمانيا بعد أن اتهم بانتمائه لجماعة إسلامية مسلحة. حصل على حق اللجوء السياسيهناك. لكن ليس بإمكانه طبعاً العودة إلى الجزائر ولذا سيحضر إلى باريس للقاء والدتهالتي لم يرها منذ سنتين. التقيت به مطولاً في ألمانيا.. واتفقنا أن يبرمج مجيئه إلىباريس عند استئجاري شقة كي يتمكن من الإقامة عندي, فهو لأسباب أمنية يفضل عدمالإقامة في الفندق.
وهكذا كان مراد يزف لي خبرين: خبر مجيء ناصر, وحتمية مجيءأخته رفقة والدتها. فلم يكن من المعقول أن تأتي والدته بمفردها إلىباريس.
أذهلتني صاعقة المفاجأة.

أحقاً ستأتي تلك المرأة التي ماكان فيمفكرة حياتي موعد معها؟
ستأتي , بعدما لفرط انتظارها ما عدت أنتظرمجيئها.
سنتان من الانقطاع, تمددت فيهما جثة الوقت بيننا, وجوارها شيء شبيهبجثتي, فقد أحببتها لحظة دوار عشقي كمن يقفز في الفراغ دون أن يفتح مظلة الهبوط, ثم.. تركتها كما أحببتها, كما يلقي يائس بنفسه من جسر بدون النظر إلى أسفل. أما كنتابن قسنطينة حيث الجسور طريقة حياة وطريقة موت.. وحب!
تلك التي لم يتخل عنهايوماً رجل,تخليت عنها, خشية أن تتخلى هي عني. كأنني القائل " رب هجر قد كان من خوفهجر\ وفراق قد كان خوف فراق".
أكثر إيلاماً من التخلي نفسه, خوفي الدائم منتخليها عني.

عكس العشاق الذين يستميتون دفاعاً عن مواقعهم ومكاسبهمالعاطفية, عندما أغار أنسحب, وأترك لمن أحب فرصة اختياري من جديد.
كنت رجلالخسارات الاختيارية بامتياز. ما كان لي أن أتقبل فكرة أن تهجرني امرأة إلى رجلآخر.
أنا الذي لم أتقبل فكرة أن يكون أحد قد سبقني إليها. كيف لي أن أطمئن إلىامرأة تزرع داخلي مع كل كلمة حقولاً من الشك.
أذكر يوم سألتني لأول مرة إن كنتأحبها, أجبتها:
-
لا أدري.. ما أدريه أنني أخافك.
في الواقع كنت أخاف التيهالذي سيلي حبها, فمثلها لا يمكن لرجل أن يحب بعدها دون أن يقاصص نفسهبها.
يومها, فكرت أنني لا يمكن أن أواجه الخوف منها إلا بالإجهاز عليها هجراً. وكان ثمة احتمال آخر: اعتماد طريقتها في القتل الرحيم داخل كتاب جميل. فقد حدث أنأهدتني ما يغري بالكتابة. أشياء انتقتها بحرص أم على اختيار اللوازم المدرسيةلطفلها يوم دخوله الأول إلى المدرسة.
وكنت بعد موت عبد الحق بأسبوعين, صادفتهافي مكتبة في قسنطينة تشتري ظروفاً وطوابع بريدية لتبعث رسالة إلى ناصر في ألمانيا. كانت تمسك بيدها دفتراً أسود, قالت مازحة إنها اشترته لأنه تحرش بها. سألتنيفجأة:
-
إن أهدينك إياه, هل ستكتب شيئاً جميلاً؟
قلت:
-
لا أظنني سأفعل.. ستحتاجين إليه أكثر مني.
لم تعر جوابي اهتماماً, توجهت إلى البائع تطلب منه عدةأقلام سيالة من نوع معين. قالت وهي تمدني بها " أريد منك كتاباً" كما لو قالت " أريد منك طفلاً". فهل كانت تريد أن