نحوه, ولا وجهة لي. حتى الرسم توقفت عن ممارسته منذ سنتين.
أمدنياعترافه هذا بموجز عن نشرته العاطفية, ذلك أنني تذكرت قول بيكاسو " أن تعود إلىالرسم أي أن تعود إلى الحب" فقد ارتبطت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة فيحياته. وربما كانت كل مرحلة فنية عنده, بدخول امرأة جديدة في حياته. وربما كانتالكتابة عكس ذلك, فقد كانت حياة كلما سألتها خلال السنتين اللتين قضيناهما معاًلماذا لا تكتب؟ أجابت " الكتابة إعمال قطيعة مع الحب وعلاج كيماوي للشفاء منه.. سأكتب عندما نفترق".





قلت:
-
مؤسف حقاً.. ألا تكون قد رسمت كل هذهالفترة.
أجاب:
-
الرسم كما الكتابة, وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الأذىالمقبل. وأنا ما عدت أحتاجها لأنني استقويت بخساراتي. الأقوى هو الذي لا يملك شيئاليخسره. لا تنغش بهيئتي. أنا رجل سعيد. لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفةوالاستخفاف بما كان مهماً قبل اليوم.
عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كماتخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك الإصطناعية, أن تعلق خوفك على المشجب, وأنتقلع عن الأحلام. كل الذين أحببتهم ماتوا بقصاص أحلامهم!
أدركت فجأة سر جاذبيته. كانت تكمن في كونه أصبح حراً. عندما ما عاد لديه ما يخسره أو يخاف عليه.
وهويدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكماً لمزاجه, لا لحكم الآخرين, كما عاش من قبل. ولا تستطيع إلا أن تحسده, لأنه خفيف ومفلس. خفته اكتسبها مما أثق به الناس أنفسهممن نفاق. وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله منقبل.
كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحاً أعماله, والجار الذيكان يجامله اللحية عن خوف, والصديق الذي كان يسكت عن اختلاساته عن حياء, والعدوالمنافق الذي كان يدعي أمامه الغباء.
سألته:
-
ألا تخشى ألا يبقى لك صديق بعدهذا؟
ضحك:
-
ما كان لي صديق لأخسره. أصدقائي سقطوا من القطار. عندما تغادروطنك, تولي ظهرك لشجرة كانت صديقة, ولصديق كان عدواً. النجاح كما الفشل, اختبار جيدلمن حولك, للذي سيتقرب منك ليسرق ضوءك, والذي سيعاديك لأن ضوءك كشف عيوبه, والذيحين فشل في أن ينجح, نذر حياته لإثبات عدم شرعية نجاحك.
الناس تحسدك دائماً علىشيء لا يستحق الحسد, لأن متاعهم هو سقط متاعك. حتى على الغربة يحسدونك, كأنماالتشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقداً وحقداً, وأنا رجل يحب أن يدفع ليخسرصديقاً. يعنيني كثيراً أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة نخاستهم العاطفية. البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل 500 فرنك يكسبها من مقاليشتمك فيه, وآخر يستدين منك مبلغاً لا يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك منه, وآخر أصبحعدوك لفرط ما أحسنت إليه " ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن الرد عليها بغيرنكران الجميل". ولذا لا بد أن تعذر من تنكر لك, ماذا تستطيع ضد النفس البشرية؟
-
وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
-
لا حاجة لي إليهم.. أصبح همي العثور على أعداء كبارأكبر بهم. تلك الضفادع الصغيرة التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها فيمستنقع, أصغر من أن تكون صالحة للعداوة. لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل.. وتعكرعليك حياتك. إنه زمن حقير, حتى قامات الأعداء تقزمت, وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبةلرجل مثلي حارب لثلاث سنوات جيوش فرنسا في الجبال.. كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلةيترفع سيفك عن منازلتها؟
-
أنت إذن تعيش وحيداً؟
رد مبتسماً:
-
أبداً.. أنا موجود دائماً لكل من يحتاجني, إني صديق الجميع ولكن لا صديق لي. آخر صديق فقدتهكان شاعراً فلسطينياً توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي. لم أجدأحداً بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملأها داخلي. معه مات شيء مني. ماوجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي.
سكت قليلاً ثم أضاف:
-
تدري؟ هذه أول مرةأتحدث فيها هكذا لأحد. لكأنك تذكرني به. لقد كان في عمرك تقريباً ووسيم هكذا مثلك, وكان شاعراً غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات. عندما أغادر المستشفى, سأطلعك على بعض قصائده.. ما زالت في حوزتي.
قال فجأة كمن يعتذر:
-
قد أكونتحدثت كثيراً.. عادة أنا ضنين في الكلام, فالرسامون حسب أحدهم " أبناءالصمت".
قلت وأنا أمازحه:
-
لا تهتم.. فالمصورون أبناء الصبر..!
قال وقدأضاءت وجهه ابتسامة:
-
جميل هذا.. يا إلهي.. أنت تتكلم مثله!
كدت أقول له " طبعاً.. لأن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون" لكنني لم أقل شيئاً. وقفت لأودعه. ضمني بحرارة إليه, وسألني:
-
متى ستنشر هذه المقابلة؟
أجبته بمحبة:
-
لمتنته بعد لتنشر.. لقاءاتنا ستتكرر إن شئت, فأنا أريد عملاً عميقاً يحيط بكلشخصيتك.
قال مازحاً:
-
لا تقل لي إنك ستعد كتاباً عني.. ما التقيت بكاتب إلاوأغريته بأن يلملم أشلاء ذاكرتي في كتاب!
استنتجت أنه يعنيها. قلت:
-
لا , أنا لست كاتباً. الكتابة تكفين الوقت بالورق الأبيض.. أنا مصور, مهنتي الاحتفاظبجثة الوقت, تثبيت اللحظة.. كما تثبت فراشة على لوحة.
قال وهو يرافقني نحوالباب:
-
في الحالتين.. أنت لا تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك.
ثم واصل كمن تذكرشيئاً:
-
لا تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة. لقد أخبرتني فرانسواز أنك مصور كبير.
كأنني بدأت أشبهه, لم أعلق على صفة "كبير" سوى بابتسامة نصفها تهكم.
تركته للبياض. وغادرت المستشفى مليئاً بذلك الكمالمذهل من الألوان.

عندما عادت فرانسواز إلى البيت, وجدتني أعيد الاستماعإلى تسجيل حوارنا.
سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال. أجبتها أننيأفرغه لأمتلأ به. فلم يكن في الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال. ولا توقعت يومها أنني , كمن سبقني إلى ذلك الرجل, سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!

***