- منذ متى تعرفه؟
-
منذ زمن بعيد.. كأنني عرفته دوماً. عرفته في صغري الأول عندماكان يزورنا في تونس بعد وفاة أبي, ثم أضعته بعض الوقت, وعدت فإلتقيت به في قسنطينةبمناسبة زفاف أختي حياة. لا أفهم حتى اليوم كيف قبل أن يحضر ذلك الزفاف.. كانتالمرة الوحيدة التي اختلفنا فيها.. لكن كان له دوماً في قلبي شيءً من ذكرى هيبةأبي.

عندما استيقظنا, ذهب ناصر ليأخذ حمامه الصباحي ويحلق ذقنه. سألتهمازحاً ونحن نتناول قهوة الصباح:
-
هل حلقت لحيتك خوفاً من المضايقات؟
رد وهويحرك قهوته بتأن:
-
ماكانت لي يوماً لحية لأحلقها. أنا أحب قول الإمام علي رضيالله عنه " أفضل الزهد إخفاءه". بعض اللحى عدة تنكرية, كتلك اللحية التي حكمتنا فيالسبعينات. أنت حتماً تعرف صاحبها, فقصته معروفة لدى رجال جيله الذين يروون أنه يومكان شاباً تلقى ضربة بالموسى في وجهه في أحد مواخير قسنطينة, فأخفاها منذ ذلك الحينبلحية غطت عاره بهيبة.
سألني بعد ذلك عن عنوان المستشفى الذي يتعالج فيه زيان, وقال متأسفاً إنه كان يتمنى أن يذهب ليعوده اليوم.. لولا أنه مشغول باستقبال والدتهوأخته.
هكذا , وقد نصبت فخاخ المصادفة في كل مكان, كان علي بعد الآن أن أنتظرمجيئها بصبر صياد, أو بصبر مصور ينتظر ساعات ليصطاد صورة. فالصورة كما المرأة, لاتمنح نفسها إلا لعاشق جاهز أن يبذر في انتظارها ما شاءت من العمر.
عدت إلى البيتسعيداً, فمراد من النوع الذي تسعد عندما تلتقي به, وتسعد أيضاً عندما تفارقه وتعودإلى سكينتك.
غير أنني لم أعد إلى سكينتي خالي اليدين. استعرت منه شريطين: ذاكالذي رقص عليه, وآخر كنت أنوي البكاء عليه. اعتاد الحزن عندي أن يرافق كل فرحة, كمايصاحب فنجان القهوة كوب الماء المجاني الذي يقدمه لك نادل عندما تطلب قهوة فيفرنسا.
احتفت فرانسواز بعودتي. شعرت أنها افتقدتني.
سألتني عن مراد. قلت لهاإنه هايص وحايص كعادته. ضحكت:

- Il est marrant ce type..
وأن يكون هذا الرجل "طريفاً" أو "لطيفاً" حسب قولها, لم يكن ليثير شكوكي بعد. في الواقع, كنت دائم التفكير في إحكامفخاخ المصادفة.
قلت حتى أهيئها لتواجدي المكثف بعد الآن أكثر في قاعةالمعرض:
-
هل من إزعاج إن ترددت هذين اليومين على الرواق؟ إنني أحتاج أن أرىاللوحات, وأن ألتقي بزوار المعرض لأكتب عن زيان بطريقة أكثر حيوية.
-
فكرةجميلة.. طبعاً لا إزعاج في ذلك. كارول تجدك لطيفاً, وسألتني عنك البارحة.
-
حقاً؟ بأية مناسبة؟
-
أخبرتها أنني قد أسافر في نهاية الأسبوع إلى جنوب فرنسالأزور والدتي. سألتني إن كنت ستسافر معي فأجبتها أنك على الأرجح لن تأتي.
برغمأنني ما كنت رافقتها, لو عرضت علي ذلك, مفوتاً علي فرصة لقائي بحياة, آلمني أن تزفلي الخبر بتلك الطريقة.
ثم عدت وعذرتها, فأنا أقيم معها منذ بضعة أيام فقط, وهذالا يعطيني حق ملاحقتها وإحراجها أمام والدتها.

اتجهت فرانسواز نحو طاولة ركنفي الصالون, عليها صور مختلفة الأحجام , وعادت بواحدة لسيدة ستينية, قالت وهي ترينيإياها:
-
إنها ماما.. أعز مخلوق عندي. أتردد عليها كثيراً لمواساتها منذ فقدتأبي في السنة الماضية.
-
يؤسفني ذلك.
أخذت منها الصورة. تأملتها بمحبة ثماستطردت:
-
هي أجمل من أن تطوقي ابتسامتها بهذا البرواز الفضي الضخم.
-
أحبه.. قديم وثمين. اشتريته قبل سنتين من سوق البراغيث.
-
ربما كان ثميناً لكنهلا يليق بها. الناس الذين نحبهم لا يحتاجون إلى تأطير صورهم في براويز غالية. إهانةأن يشغلنا الإطار عن النظر إليهم ويحول بيننا وبينهم. الإطار لا يزيد من قيمة صورةلأنها ليست لوحة فنية وإنما ذكرى عاطفية, لذا هو يشوش علاقتنا الوجدانية بهم ويعبثبذاكرتنا. الجميل أن تبقى صورهم كما كانت فينا عارية إلا من شفافية الزجاج.
صمتتفرانسواز مأخوذة بكلامي, ثم قالت:
-
ربما كنت على حق. هذا المنطق لا يدركه إلامصور.
صححت لها:
-
أو محب!
ثم واصلت واجداً في اقتناعها مناسبة لالتفاتةجميلة:
-
أتسمحين أن أهديك بروازاً لهذه الصورة. إن كانت الأعز عندك, ميزيهابألا تضيفي إليها شيئاً.
طوقتني بذراعيها وقالت وهي تضع قبلة على خدي:

- Tu sais que je taime.. toi.
قلت مدعياً التعجب:
- C'est vrai ca?
كيف ترد علة امرأة تطوقك باعتراف في صيغةسؤال جميل " أتدري أنني أحبك؟" إلا بسؤال آخر " أحقاً هذا؟" متفادياً أسئلة أخرى قدتفضي بك إلى السرير في وضح النهار مع امرأة دائمة الاشتعال.
قلت وأناأداعبها:
-
أجلي أسئلتك إلى المساء. سأجيب عنها واحداً.. واحداً. لكن بهدوءوبدون صراخ إذا أمكن!
ضحكت وقالت:
-
أيها اللعين.. سأحاول!
-
سأزور زيانبعد الظهر. لم أطمئن عليه منذ يومين.
-
حسن.. فقد صدر مقال جيد عن معرضه سيسعدهحتماً الإطلاع عليه. خذه إليه معك. أخبره أيضاً أن ثلاثاً من لوحاته بيعت البارحة. كانت نهاية أسبوع مثمرة بالنسبة للرواق.
ثم أضافت:
-
لم أعد أدري أيجب أنأفرح أم أحزن عندما تباع له لوحة. من ناحية يذهب ريعها في عمل خيري.. ومن ناحيةأخرى أشعر كأنه يقوم بمجزرة تجاه أعماله بتصفيتها جميعها خلال معرضين بينهما أقل منشهر.. أنا لم أسمع بمذبحة فنية غريبة كهذه.
أجبتها وأنا أتنهد:
-
أتمنى أنهيعي ما يفعل!

***
كانت الساعة الثانية ظهراً عندما قصدته.
صادفت ممرضةغادرت غرفته. سألتها عن وضعه الصحي.
قالت:
-
في تحسن.
ثم واصلت:
-
إنكنت من أقاربه أقنعه بعدم مغادرة المستشفى هذا الأسبوع.