أجد متعة في تسريب كتابإلى غرفة نوم مهيأة أصلاً لتكون فضاءً نسائياً تهرّب إليه زوجتي أشياءها منالآخرين, أو بالأحرى من الأخريات!
حدث كثيراً أثناء تهريبي كتاباً إلى مخدعالزوجية, مدعياً حاجتي المهنية إلى مطالعته, أن تذكرت أبي الذي عثر أثناء حربالتحرير على حيلة فوق كل الشبهات تمكنه من إحضار عشيقاته إلى البيت, مستفيداً مننشاطه النضالي, وإقامتنا بمفردنا في بيت شاسع على الطراز العربي. فكان يغلق علينا, أنا وجدتي وزوجته العروس, في إحدى الغرف الكبيرة, متحججاً باستقبال المجاهدين الذينكانوا يقضون بين الحين والآخر ليلة " مشاورات" في بيتنا.. يعودون بعدها إلىالجبال!

كان عمري لا يتجاوز الست سنوات. وبرغم ذلك لفت انتباهي أن أبي, علىغير عادته, أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح, بعد أن كان في الماضي يكتفي بأنيسعل بصوتٍ عالٍ كلما دخل البيت مع رجل غريب مردداً وهو يسبقه بخطوات: " الطريق.. الطريق". فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب حتى يمر الرجال.
ذات مرةتأملت من ثقب الباب الذي لم تكن قامتي تعلوه سوى بقليل, فرأيته يدخل مع امرأةبملاءة سوداء. عندما أخبرت زوجة أبي بذلك بدت مندهشة, غير أن جدتي تدخلت لتنهرنيململمة الفضيحة, مدعية أن العادة جرت أن يتنكر المجاهدون في زي النساء.
من يومهابدأت زوجة أبي التي لم تقتنع بالزي التنكري للمجاهدين, تتجسس بدورها من ثقب الباب, وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار.
ولكن اكتشافها لم يغير شيئاًمن تصرفاتها, فهي لم تجرؤ حتى على إخباره بأنها تدري أنه يكذب عليها, خشية أن يغضبويعيدها إلى بيت أهلها, فتستبدل بشرف الزواج من أحد وجهاء قسنطينة مذلة أن تكونرقماً في طوابير المطلقات.

هكذا واصلت إعداد أشهى الطعام للمجاهدين و " المجاهدات", القادمين لتوهم " من الجبال الشامخات الشاهقات", وفرش سريرها بأجمل مافي جهازها من شراشف مطرزة, والمضي للنوم جوار صغيرتها في غرفة الضيوف, بينما كانأبي يخوض معاركه التحريرية في سريرها الزوجي على أمتار منها. وربما كانت أثناءتقلبها في فراشها, تبحث عن وجوه وأسماء لنساء فاجرات يدخلن بيتها تحت حشمة الملايةوعفة الجهاد ليضاجعن زوجها في حضرتها.

كان يلزمني بلوغ سن التأمل, كي أفهمأنني يوم وضعت عيني على ثقب المفتاح لم أكن أكتشف سوى قسنطينة التي لم يكن ذلكالبيت العتيق سوى صورة لتقاليد نفاقها.
دفعة واحدة أدركت أن الآباء يكذبون, وأنالمجاهدين ليسوا منزهين عن الخطيئة, وأن النساء اللائي يلبسن ملايات لسن فوقالشبهات, وأن النساء القابعات في بيوت الظلم الزوجي لسن مخدوعات إلى هذا الحد, وأن " الضحية ليست بريئة من دمها"!

بعد ذلك , أصبحت مع العمر أرى في تصرفات أبيآنذاك جانباً " زوربوياُ" ساهم في خلق أسطورته النضالية والعشقية.
كان بحكمثقافته رجلاً لكل الجبهات. خاض معاركه ضد الاستعمار وضد المؤسسة الزوجية التي لميؤمن بها يوماً, وانتسب إليها استجابة لإلحاح جدتي لا غير. كان لا بد له من زوجةتتكفل بتربيتي بعد وفاة والدتي, فجاءته بإحدى القريبات من اللائي هيئن ليكن رباتبيوت وأمهات صالحات.
في الواقع, عشقه للحرية أوصله إلى الإعجاب بنساء متحررات. كان له ضعف دائم تجاه الأجنبيات لكونهن متعلمات. ساعدته وسامة أندلسية عرف بها أهلقسنطينة الأوائل, على اكتساح القلوب الشقراء والسمراء. كمدرّسة فرنسية نظم أشعارهالأولى تغزلاً بها, أو تلك الأرملة اليهودية التي كان زوجها حارساً في سجن الكدياعندما كان والدي سجيناً هناك, وكانت جدتي تتردد على بيته كلما أرادت أن ترسل شيئاًإلى أبي في السجن. وعندما بعد سنتين عرف العالم المجاعة وكلّف أبي من طرف الإدارةالفرنسية بتوزيع قسائم المساعدات الغذائية على سكان قسنطينة من المسلمين, كانيزورها ليزودها خلسة هي وبعض عونه من المعارف والجيران, في ذلك الزمن الذي كانتتتجاور فيه الأجناس والأديان.
كان زوربا على طريقته. اعتاد أن يحيط نفسهبالأرامل والعوانس, ونساء على وشك أن تذبل ورودهن وليس لهن بستاني سواه.

كانمسؤولاً عن كل نساء الأرض, بدون تمييز بين أعمارهن أو ديانتهن أو جمالهن, مسؤولاًعن أجسادهن وأحلامهن, معنياً بتعليمهن وإدارة مستقبلهن إلى حد التكفل بتزويجهن, ومسؤولاً عن كل جياع الأرض أينما وجدت أفواههم وبطونهم ولقمتهم. وعن كل المظلومينوالمستعمرين أينما وجدت أرضهم وقضيتهم. ولذا " عاش ما كسب.. مات ما خلى". فلم يكنيعنيه أن يمتلك بقدر ما كان يعنيه أن يحيا.
وكان بعد الاستقلال يقيم في شقةواسعة استأجرها. نشغل نحن جزأها الأكبر بينما يحيا هو بين غرفتين: صالونه الذهبيالفخم حيث يستقبل ضيوفه من السياسيين ورفاق قدامى يتناقصون كل عام, وغرفة نوم فاخرةاشتراها من معمرين فرنسيين غادروا الجزائر عند الاستقلال, ربما كانت تعود لنهايةالقرن الماضي, بخزانة ضخمة منقوشة باليد بحفر صغير على شكل دوالٍ تغطيها مراياكبيرة. جوارها سرير عالٍ يسند رأسه لوح بذات النقوش وينتهي جانباه من الأعلىبمجسمات نحاسية لملاكين كأنما يطيران أحدهما صوب الآخر, وعلى جانبي السرير طاولتانصغيرتان تغطيهما لوحتان رخاميتان, يقابله خزانة أثاث بأربعة جوارير بمماسك نحاسيةجميلة تعلوه مرآة أخرى تحيط بها النقوش ذاتها.

كان الصالون قصاص أبي. كانكتلك الغرف القليلة الاستعمال, القليلة الاستقبال والمهيأة لزوار لن يأتوا. يذكّرهبابه الذي لا يفتح إلا في المناسبات بأن الرفاق من حوله انفضوا.
أما غرفة النومالتي كانت مملكته وما بقي من جاهه والتي كان ينام فيها وحده, فقد أصبحت بعده قصاصيأنا. كان مستبعداً بيعها لأسباب عاطفية, ولذا وجدتني أبدأ حياتي الزوجية علىسريرها.
كان في الغرفة رائحة توقظ زمن الموتى, تفسد عليك زمانك. ما أصعب أن تبدأحياتك الزوجية على سرير كان أبوك يشغله وحده, وينام على يساره دائماً إلى حد تواطأالزمن مع الجسد حافراً لحداً داخل الفراش الصوفي بحيث ما عاد بإمكانك أن تتقاسمه معشخص, إلا وتدحرج أحدكما نحو الآخر.
كانت غرفة فاخرة تصلح بسريرها العالي وأبوابخزائنها الثقيلة للأنتيكا.. لا للحب. وربما أرادها أبي فخمة إلى ذلك الحد ليعوض بهاغياب الحب في حياته.
ما كان أبي ثرياً, ولا اشترى تلك الغرفة بالذات ليراها أحدسواه. ولكنها كانت تذكرني بغرف نوم فاخرة مؤثثة بإثم واضح في التبذير, قصد إقناعكأن الأثرياء ليسوا عشاقاً سيئين!

ذات يوم تبدأ حياتك الزوجية في سريرالمسنين المليء بكوابيس النوم غير المريح. وعليك, لأسباب عاطفية غبية, أن تتدرب علىالتصرف بحياة سبقك إليها أبوك. رائحته هنا علقت بالخشب.. بالستائر.. بأوراقالجدران.. بكريستال الثريا. وأنت مدهوش, لا تدري حتى متى ستظل رائحته تتسرب إليك. أكانت كل تلك الغرفة سريراً لرائحته؟
كنت تظن لك فيها حياة مؤقتة, كما لو كانتنزلاً تمر به, كما لو كنت عابر سرير. ولكن حيث تنام, ذات يوم, في اللحظة التيتتوقعها الأقل, تجتاحك رائحة الغياب, وتستيقظ فيك تلك الرائحة التي أفسدت عليك منذالبدء علاقتك بجسد زوجتك, حد جعلك تفرض عليها تناول حبوب منع الحمل لسنوات, خشيةمجيء صغير يعاني من " تشوهات الأسرية للأسرة"!