تركتهاتسبقني بخطوات. وبينما كانت تنتظر سيارة أجرة, كنت أقصد المترو عائداً إلى البيتخوفاً على جمال فرحة قد أنفضح بها.
الفرحة الأخرى كانت سفر فرانسواز صباح الغد. وجدتها تعد حقيبة سفرها.
كانت مجهدة بعد يومين من العمل في المعهد, لا ترغب سوىفي النوم كي تستطيع الاستيقاظ باكراً.
سعدت بأنها لم تتحرش بي. كان عقلي كله عندحياة, ولم أكن سعدت بأنها لم تتحرش بي. كان عقلي كله عند حياة, ولم أكن بي. كانعقلي كله عند حياة, ولم أكن أدرك أن عقلها أيضاً كان عند رجل آخر!
سهرت طويلاًتلك الليلة أمام التلفزيون. لم أستطع النوم. ثم فكرت أن أطلب ناصر لياقة للاطمئنانعن والدته.
بدا محتفياً بي كأنه افتقدني. وأصر على دعوتي يوم السبت للعشاء عندمراد لأن والدته ستحضر لتعد لهم أكلاً قسنطينياً!
سألته عن صحتها. قال بشيء منالأسى:
-
إن العذاب النفسي الذي عرفته امّا على يد الفرنسيين أيام كان أبي أحدقادة الثورة الملاحقيين, لا يعادل ما تلاقيه في هذا العمر بسببي.. تصور أن تتحملعجوز في سنها مشقة السفر لترى ابنها, لأن وطنه مغلق في وجهه وعليها أن تختار أتريدهميتاً أم متشرداً.
لم أشأ أن أقص عليه ما بذريعة مواساته كان سيزيدهألماً.
ذكرني كلامه بما سمعته يوماً عن والدة أحمد بن بلة التي, رغم ما كانتعليه من ضعف بنية وقصر قامة, أذهلت الفرنسيين بشجاعتها. فعندما اعتقلوا ابنهاوساقوها إليه قصد إحباط معنوياته وتعذيبه برؤيتها, فاجأتهم بأن لم تقل له وهي تراهمكبلاً سوى " الطير الحر ما يتخبطش" وأدركوا أنها بذلك المثل الشعبي كانت تحثه علىأن يكون نسراً كاسراً لا عصفوراً ينتفض خوفاً في يد العدو.

لكن الحياة كانتتعد لها امتحاناً آخر. فبعد استقلال الجزائر خرج بن بلّة زعيماً من سجن العدو ليجدمعتقلات وطنه مشرعة في انتظاره سبع عشرة سنة أخرى. لم يسمح لتلك الأم العجوز برؤيتهسوى بعد سنتين من اعتقاله. يومها ولإهانة ابنها تم تعريتها وتفتيشها وتركت ترتجفبرداً على مرأى من كلاب حراسة الثورة. لم تصمد كهولتها أمام مجرى هواء التاريخ, ماتت بعد فترة وجيزة من جراء نزلة القهر برداً على مرمى العيون اللامبالية لوطنٍ لهالقدرة على مسخ النسور الكواسر إلى عصافير مذعورة.
كان عليه أن ينتظر خمس عشرةسنة لتفتح له الزنزانة على مضض, ويطير كعصفور مهيض الجناح ليحط باكياً علىقبرها.
لا أدري كيف وصلت إلى هذا الكم من الألم نهار كنت فيه الأكثر سعادة. كنتطلبت ناصر طمعاً في رائحة أخته, وإذا بي أبكي بسبب أمه. مسكونون نحن بأوجاعنا, فحتىعندما نحب لا نستطيع إلا تحويل الحب إلى حزن كبير.

في اليوم التالي استيقظتباكراً كي أتناول فطور الصباح مع فرانسواز, وأودعها بما يقتضيه الموقف من حرارة, وأتلقى تعليماتها الأخيرة حول إدارة شؤون البيت في غيابها. عندما عدت إلى البيتبعدما رافقتها لأحمل عنها حقيبتها حتى باب البناية انتابني شعور غريب ونظراتيتتقاطع مع نظرات البواب الفضولية التي لا تخلو من عدائية صامتة.
أحسست كما لوكنت لا أقيم في هذا البيت, بل أسترق إقامتي فيه, كالمهاجرين الذين لا أوراق لهم. أجرب المساكنة. أقيم علاقة غير شرعية مع مسكن عليّ أثناء مكوثي المختلس فيه, ألاألفت نظر الجيران أو أثير انتباههم . عليّ ألا أفتح الباب لأحد, لأنني لست هنا أحد, ولا أرد على الهاتف, خشية ألا يكون " هو" على الخط. فأنا موجود هنا في المكان الخطأفوق ألغام الذاكرة. وعندما سيدق ذلك الهاتف طويلاً بعد ذلك ولن أرد عليه, سأكتشفبعدها أنني كنت موجوداً في الوقت الخطأ أيضاً!

وحده ذلك المشروع الذي أهدتنيإياه المصادفات في تقاطعها الغريب كان يملأني حماسة. ذلك أنني قررت أن أستدرجها إلىهذا البيت لإرغامها على الاعتراف بأنها ذات يوم مرت من هنا, وأن ذلك الرجل وجدحقاً.
سبق لها أن قالت إن للذاكرة حيلٌ إحداها الكتابة, وكانت تعني أن للذاكرةأحابيل إحداها الكذب. وكانت يومها توهمك بذلك لتهرب تلك الحقيقة في كتاب, هي التيتحب توثيق جرائمها العشقية, كيف كان لها ألا تصف بيته بكل تفاصيله, بتمثال ( فينوس) في ركن من الصالون. بلوحات الجسور المعلقة على الجدران, بالشرفة المطلة على جسرميرابو, بالمرسم الذي تكدس على رفوفه الكثير من تعب العمر.
ذلك أنها ما توقعت أنيكون لقارئ يوماً, قدر الإقامة في الغرف السرية لكتابها.

كنت أعي ذلكالامتياز الذي أهدتني إياه الحياة. ولذا قررت أن أقضي نهاري في البيت متمتعاًباحتجازي في متاهات رواية, أُقحمت فيها كبطل من أبطالها.
في الواقع كان شيءٌ فيّينتظر صوتها. شيء لا يتوقف عن انتظار شيء منها. وكنت لا أعرف لي مكاناً يليق بتوتريغير ذلك البيت. كنت أنتظر صوتها كما اعتدت أن أنتظر صورة. فعندما تكون جالساً علىمقعد الوقت المهدور, غير منتظر لشيءٍ البتة, تجد الأشياء في انتظارك, وتهديك الحياةصورة لمشهد لن يتكرر.
أن تنتظر دون أن تنتظر. دون أن تعرف بأنك تنتظر. لحظتهاتأتي الصورة مثل حب, مثل امرأة.. مثل هاتف. تأتي عندما يكون المكان مليئاً بشيءمحتمل المجيء.
وكنت مليئاً بذلك البيت. أعيش بين غبار أشياء يلامسني في صمتهضجيجها. ويذكرني أنني عابر بينها. ولذا أحضرت آلة تصويري, ورحت بدوري أوثق زمنيالعابر في حضورها. ذلك أنني اعتدت أن أطلق سيلاً من الفلاشات على كل ما أشعر أنهمهدد بالزوال كأنني أقتله لأنقذه.
من جثة الوقت تعلمت اقتناص اللحظة الهاربة, وإيقاف انسياب الوقت في لقطة. فالصورة هي محاولة يائسة لتحنيط الزمن.

عندماامتلأ ذلك الفيلم بالصور, فاجأني إحساس بالأبوة. كأن آلة التصوير التي كانت رفيقةحياتي غدت أنثى تحمل في أحشائها أولادي.
فتلك اللحظة الغامضة الخاطفة التييتقاطع فيها الظل والضوء ليصنعا صورة, تعادل في معجزتها اصطياد هنيهة الإخصاب بينرجل وامرأة.
لا أدري من أين خطرت لي هذه الفكرة. ربما لأنني بسبب عقدة يتمي كنتمهووساً ببطون النساء وصدورهن, دائم البحث عن رحم أأتمنه على طفلي.

هي كانتكفينوس, لها غضاضة بطن لم ينجب. حزن نساء يدارين بحياء فاجعة الخواء. في كل تطابقمعها كنت أصلي لآلهة الإخصاب كي تحرر أنوثتها المغتصبة في أسرة العسكر. كانت ذاكرتيالمنتصبة دوماً تتمرد على فكرة أن يشيخ بطنها من غير انفضاح بي.
ذات مرة قلت لهامازحاً:" أنت لن تحبلي من سواي. فمنذ موت الفاشية ما عادت النساء تحبل قسراً, مستسلمات لسطوة طغاتهن, كتلك المرأة التي قرأت أنها قالت بفعل الجاذبية الخارقةللقوة " عندما رأيت موسيليني يمر في موكب شعرت أنني حبلت منه." اليوم, حتى البطونالموصدة للأميرات أذابت نيران العشق شموع أختامها الملكية. وما عاد اللقاح الأزرقيثير شهية الإخصاب لدى الأرحام المتوجة.

لفرط انشغالي بها كدت أنسى انتظاريلها.
كنت ما أزال أستعيدها عندما انتفض القلب ورن ذلك الشيء الذي كان ينتظرصوتها ليصبح هاتفاً.