- حياة.. هلقبَّلك رجل بعدي؟؟
فاجأها السؤال. ردت عليه بضحكة ماكرة, ضحكة ماطرة تجاهلترذاذها. قلت موضحاً:
-
لا أريد نصاً روائياً.. لا يعنيني أن أعرف من يكون ولاكيف أو متى حدث هذا.. أريد أن أعرف فقط هل حدث؟

هي عادة لا تصدق إلا عندمايكون في صدقها إيلامك, ولمرة تمنيت لو أنها كذبت.
كنت أنتظر منها جواباً لكنهالم تملك سوى كلمات كضمادات لاصقة, توضع على عجل لوقف نزيف.
قالت إذ وجدت في سؤالآخر براءة لذمتها:
-
قلت مرة إن " الذكاء هو تقاسم الأسئلة" دعني أتذاكى وأسألكبدوري, ما علاقتك بهذه المرأة التي تغطي صورها كل مكان في هذا البيت الذي تستقبلنيفيه؟
ضحكت لسؤالها. فالذكاء ما كان بالنسبة إليها تقاسم الأسئلة بل قلبها. وأناجئت بها إلى هنا كي أرغمها على الاعتراف بحقيقة وجود خالد.. ها هي تقلب الأدوار, وتبدأ باستنطاقي عن فرانسواز.

قررت أن أتراشق معها بجمر الغيرة, خاصة أ، فيالأمر جانباً طريفاً آخر. فهي لا تتوقع حتى الآن أن أكون التقيت بخالد, أو أننيأعرف شيئاً عنه, لاعتقادها أنه ترك هذا البيت منذ سنوات. لكنها حتماً تعرفت علىفرانسواز من صورها المرسومة على اللوحات. ولا تفهم كيف هذه المرأة استطاعت أن تسرقمنها الرجلين الأهم في حياتها.
-
صديقة أقيم عندها منذ أشهر.
ثم واصلتمستدركاً بلؤم:
-
تلقفتني " الحفر النسائية" بعدك. لكن في كل امرأة مررت بهاتعثرت بك!
ردت بضحكة تخفي لهيب الغيرة:
-
لا داع لسؤالك إذن ماذا فعلت فيغيبتي. لكثرة ما تعثرت بي في كل حفرة, أتوقع أن تكون قضيت الوقت أرضاً, هل استمتعتبذلك؟
كانت أنثى لا تختلف عن الأجهزة البوليسية, تحتاج إلى تقارير ترفعها إليهافي كل لقاء عن كل أنثى مارست الحب معها قبلها. وككل المخابرات كانت تجد متعتها فيالتدقيق بالتفاصيل.
تمادياً في إيلامها, تجاهلت فضولها. فهي تدري أن قصة لا تبوحبتفاصيلها هي قصة عشقية, ووحدها المغامرات العابرة تغذِّي آذان الأسرّة التي لاذاكرة لها.
ربما لهذا هي لم تبح يوماً بحبها لخالد ولا لزياد. فهل كان حبها أكبروأجمل من أن يحكى خارج كتاب؟
أثناء تأملي ولعها بي, كلما ازدادت يقيناً بخياناتيلها, وقعت على مفارقة عجيبة, وأنا اكتشف أن وفاء رجل لامرأة واحدة, يجعله الأشهى فيعيون بقية النساء اللائي يصبح هدفهن الإيقاع به, بينما خيانته إياها تجعله شهياًلديها!
تذكرت خالد الذي قد يكون مثلي خسرها في الماضي لفرط إخلاصه لها, ثم أصبحجديراً بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز, تماماً كما أصبح فناناً جديراً بالاهتمام فيالجزائر, مذ غادرها, لتتلقفه هنا صالات العرض الباريسية!
وهكذا الذين يقولونإننا نحتاج إلى الأكاذيب الصغيرة لإنقاذ الحقيقة.. ربما عليهم أن يضيفوا حاجتنا إلىشيء من الخيانة, لإنقاذ الوفاء, سواء لوطن.. أو لامرأة.

حاولت أن أستدرجهاللحديث عن خالد, مستفيداً من جلوسنا عند العشاء متقابلين للوحة عليها جسر:
-
دوماً كانت الجسور ثالثنا.. أتحبين هذه اللوحة؟
أجابت وقد فاجأها سؤالي:
-
ماعدت أحب الجسور. مذ اغتيل سائقي " عمي أحمد" بسببي ونحن على الجسر, كرهت الجسور, خاصة أن لي جدَّا انتحر بإلقاء نفسه من جسر سيدي راشد, وهذه الحادثة التي لم تكنتعنيني أصبحت تحضرني بين الحين والآخر. البارحة مثلاً فكرت وأنا أعبر جوار برجإيفيل أننا لم نسمع بأحد انتحر بإلقاء نفسه من برج, فالمنتحر لا يبحث عن المكانالأعلى للانتحار بقدر ما يعنيه زخم الحياة. هو يختار الجسر لأنه يريد أن يشهدنا علىموته, ينتهز فرصة ذلك الزخم الحياتي لكي يقضي على الحياة, عساها تنتحر بانتحاره, لأنه برغم كل شيء لا يصدق أنها ستستمر بعده.
كانت تبدو أجمل, عندما تتحدث فيأشياء جادة. رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك:
-
إن كنت تكرهين الجسور , لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!
عادت إلى مراوغتهاالساخرة وردت:
-
ثمة مقولة جميلة لبروست :" أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعرعلى هدية". مثله لا أملك شروحاً لأي شيء كتبته.
علَّقت مازحاً:
-
طبعاً.. أفهم تماماً أن تكوني امرأة ملتزمة بـ " إيتيكيت" الهدية!
ثم واصلت- وبالمناسبة, سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسراً, وكنت أنوي أن أهديكإياها.
قاطعتني:
-
أرجوك لا تفعل. قد لا أعلقها أبداً في بيتي.
أجبتها وقدوجدتني أتحدث مثل فرانسواز:
-
كنت سأهديك إياها لتعلِّقيها على قلبك.. لا علىجدران بيتك.
قالت:
-
ما عاد في حوائط قلبي مكان لأعلِّق عليه شيئاً.
كانتمحاولتي الأخيرة لاستدراجها للحديث عنه. انتابتني بعدها حالة كآبة.
أكنت حقاًأحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة لا أريدها ولا أريد أن أشفى منها, كان في طفرةألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة الأنبياء.
قالت وقد لاحظت حزني:
-
لا تحزنهكذا.. يكفيني هذا الفستان هدية منك. احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك. اعذرني, أصبحت أتشاءم من الجسور.
أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحةاللحمة:
-
أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟
ردت ضاحكة:
-
ما زلت..
-
روايتك التالية سأكون أباها .. وأمها.. وجد أمها.. وستكتبينها " بلا أمّك"!
كانلنا قاموس من الغزل الجزائري لا غنى لنا فيه عن المسبّات. ضحكت وهي تستعيد مفرداتشراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني:
-
نشتيك يلعن بوزينك.. ويلعن بو الروايةمتاعك..
كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الأطفال الذين لمأستولدها إياهم. ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الأدب يفرك كفّيه مستبشراً بعمل روائي. ولا بد لهذه المرأة المقصَّرة في الكتابة على الانكتاب, أن تنجب بحرمانها اليوم منينصها الأجمل. قررت ألا يخرج قلمها سالماً من هذا البيت, بيته.
بعد العشاء عندماوضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها لعلمي بحبها لها, قلتمازحاً:
-
احذري الفراولة.. برغم كونها عزلاء فقد تشعل حرباً عالمية. قرأت أنإحدى الرسائل المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرفعليها ديغول في لندن أثناء الاحتلال الألماني, كانت تحمل مساء 5 حزيران 1944 هذهالرسالة المشفرة:" أرسين يحب المربى بالفراولة" وكان ذلك إعلاناً بإنزال الحلفاءجيوشهم على الشواطئ الفرنسية!
قالت متعجبة:
-
حقاً..؟
قلت مازحاً:
-
لاتخافي.. خطورتها ليست في قوتها.. إنما في حمرة غوايتها. وربما لهذا يصعب على الناظرإليها مقاومتها. على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة, أوتلتحف بغلاف. إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب.
كانت عيناها تتبعان يدي وهيتمرغ حبة الفراولة في صحن السكر.
قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطءالمتعمد:
-
لا أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة. الخطيئة لا تقضم, بل تلقم, والمتعة ليست سوى في كمية المواربة بين الفعلين.
في الحبة الثانية, كنت توقفت عنالكلام, كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة.
تركت لثغرها أمر مواصلةالتفكير في متعة لا يمكن لها أن تدوم, حتى لا نجد أنفسنا يوماً مثل زوربا نتقيأهالنشفى منها. فالإفراط في الملذات.. تراجيديا إغريقية.
تراها أدركت أنني كنتأعدها لمتعة مع وقف التنفيذ, وأنني ألقمها فاكهة الفراق!

لم أتوقع أن يجرؤالحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا, ولكن, أكان يمكن أن يحدث شيئاً بيننا في ذلكالبيت المزدحم بأشباح عشاق, لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم وجمعأشيائهم.
ما كانت هي ولا كنت أنا. تحدثنا لغة ليست لغتنا. قلنا كلاماً غبياًلفرط تذاكينا. كنا نتكلم ثم نصمت فجأة, كي لا نقول أكثر من نصف الحقيقة, محتفظينلألمنا بنصفها الآخر.
طوال السهرة , كنا نعاند تعب الأسئلة, نغالب نعاس الأجوبة. أما كان يحق لصبرنا من سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟
امرأة كانت رائحتها, قميص نومها ضمن لوازم نومك. وأنت الآن تستطيع النوم معها, ولا أنت تدري ماذا ستفعلبعدها.
وكنت في تاريخ بعيد لحبكما, تستبقيها لحظة الفراق قائلاً " لا تغادري.. كل أعضائي تشعر باليتم عندما تغيبي" وها أنت يتيم في حضرتها. يبكيها كل شيء فيك ولاترى.
وكنت تقول لها, وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة " سأفسدك إمتاعاً حتىلا تصلحي لرجل غيري" وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لامرأة بعدها. وهاأنت تكتشف أنك لم تعد تصلح حتى لها. فهل استدرجتها إلى هنا لاستخراج شهادة الموتالسريري لحب