كنت ما أزال أفكر كيف أتصرف بكل تلك الأشياء, عندما لمحتحذاءً أسفل الخزانة.
كان حذاءه الوحيد, أو بالأحرى, ما بقي له هنا. فهو حتماًيملك حذاءً آخر ذهب به إلى المستشفى.
لا أدري لماذا اختار ذلك الحذاء دون هذالسفرته الأخيرة. قد يكون تركه لمناسبة أجمل, فهو حذاء جديد كأنه لم ينتعله. وبرغمذلك, بدا لي أكثر حزناً من الآخر, مختبئاً أسفل الخزانة كيتيم, يخاف أن يلفتالأنظار إليه فيطرد.. أو يُغتال.
أثمة يتم للأحذية أيضاً؟
بدا لي زوجا الحذاءمتلاصقين كرجلي ذلك الصغير المرعوب. عندما مددت يدي لأخرجهما من مخبئهما, استعدتمنظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة, والذي قضى ليلة مختبئاً تحت السرير, وعندمااستيقظ في الصباح, وجد أنه فقد كل أهله,وأنه أصبح يتيماً إلى الأبد.
أنا الذيقررت أمام ورشة الموت ألا أبكي, أمام ذلك الحذاء الذي كسا الغبار لمعته, وجدتنيأنهار باكياً.
هو رجل المسافة, وحشمة التغافل. أحزنني هتك أسراره, والتسكع فيعالم ما توقع أن يدخله غريب بعده, بذريعة أنه لم يعد هنا ليحمي أشياءه الصغيرةالسرية. تلك الأشياء التي لم تحفظ حرمة غيبته, بل راحت تغتابه, وتثرثر مع أول عابرسبيل.
وأذكر عندما زرته في إحدى المرات, وكان علي أن أغادر الغرفة وأنتظرهبعض الوقت في الخارج ريثما تنتهي الممرضة من خدمته, راح يعتذر لي عن انتظاري, ويحدثني عن مذلة المرض الذي يعطي لأيّ شخص الحق في أن يستبيح جسدك وينتهكحميميتك.
قال:
- هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى مذ بترت ذراعي منذ أكثر منأربعين سنة. لا أحب مهانة المرض. ما أنقذني أنني تعودت في الحياة أن أواجه النظراتالتي تعرّي عاهتي بأن أتغابى.. فلم أفعل غير مواصلة ذلك هنا.
ثم واصل:
- التغابي هو بعض ما اكتسبته من اليتم. عندما تعيش يتيماً, تتكفل الحياة بتعليمكأشياء مختلفة عن غيرك من الصغار. تعلِّمك الدونيّة, لأن أول شيء تدركه هو أنك أقلشأناً من سواك, وأنه لا أحد يردّ عنك ضربات الآخرين, ومن بعدهم ضربات الحياة.أنت فيمهب القدر وحدك كصفصافة, وعليك أن تدافع عن نفسك بالتغابي, عندما يستقوي عليك أطفالآخرون, فتتظاهر بأنك لم تسمع.. وأنك تدري أن لهم آباء يدافعون عنهم ولا أبلك.
صمت بعض الوقت.. ثم واصل:
-كلّ اكتسب شيئاً من دونيته, سواء أكان كريماًأو بخيلاً.. عنيفاً أو مسالماً.. واثقاً في الناس أو مرتاباً.. عازباً أو ربعائلة.
كلّ يتيم هو مريض بدونية سابقة, يتداوى منها حسب استعداداتهالنفسية.
لكن أعلى درجات اليتم.. يتم الأعضاء. إنها دونية عارية معروضة للفرجةوالفضول, لا شفاء منها, لأنك ما رأيت أحداً إلا وذهب نظرك مباشرة إلى ما يملكه.. وينقصك أنت.. وهنا كم يلزمك من التغابي لتكذب على نفسك!
أستعيد الآن كلامههذا.. متذكراً قولاً لمعاوية بن أبي سفيان " إن ثلث الحكمة فطنة, وثلثيهاتغافل".
ذلك أنه ما كان لي أن أدرك ثلثي حكمته إلا وأنا أجمع أشياء موته, وأقعفجأة بين حاجاته على نسخة من كتاب "فوضى الحواس" تبدو منهكة لفرط تداولها, نسخةبدون إهداء, من الأرجح أن يكون اشتراها. ذلك أن السعر مكتوب بقلم الرصاص على صفحتهاالأولى.. بالفرنك الفرنسي. وفي الأرقام الثلاثة تلك, كانت تختصر كل فجيعة رجلأحالته حبيبته من قلب كتاب كان سيده, إلى غريب لا مكان له حتى في إهداء الصفحةالأولى. يدفع 140 فرنكاً, كي يعرف ما أخبارها مطارداً خيانتها بين السطور.
كانيعرف إذن من أكون, وكان يواجهني بالتغابي ذاته!
نزلت عليَّ صاعقة الاكتشاف, وسمَّرتني مكاني. رحت من دهشتي أتصفح الكتاب وأعيد قراءة صفحات منه كيفما اتفقوكأنني أكتشفه لتوّي, باحثاً عما يمكن أن يكون قد تسقطه عني.
كيف له في محاولةلتقصِّي أخبارها, ألا يشتري كتاباً لها صدر بعد أن افترقا.
وهي التي كالأنظمةالعربية, تحترف توثيق جرائمها, واستنطاق ضحاياها في كتاب. كيف لها ألاَّ تجعلنيمفضوحاً بالنسبة إليه, بقدر ما كان هو في " ذاكرة الجسد", وإذ بواحدنا يعرف عنالآخر كل شيء, جاهلاً فقط علم الآخر بذلك.
كمن يحاول فكّ سرِّ كبير, بترتيبفسيفساء الأسرار الصغيرة, رحت أحاول أن أفهم, في أيّ موعد بالذات أدرك من أكون, وأيّ تفصيل بالذات جعله يتعرَّف عليّ. أمن الاسم الذي أعطته له فرانسواز, وهي تطلبلي موعداً معه؟
ترى لو لم أقدِّم نفسي على أنني خالد بن طوبال أكان سيتعرف عليَّمثلاً من عاهة ذراعي اليسرى التي لا تتحرك بسهولة؟ أم كان سيعرفني لأنني كما فيالرواية مصوِّر...ومن قسنطينة؟ ولأفترض أنني عندما زرته في المستشفى لم أقل لهشيئاً على الإطلاق, أكان سيتعرف عليَّ بحدس المحب, وريبة الرجولة؟
ثم, قد يكونتعرّف عليّ, وعرف من ذلك الكتاب كل شيء عن علاقتي بحياة, وهذا ليس مهماً فيالنهاية..
لكن, أكان على علم أنني أقيم في بيته؟ وأساكن صديقته؟ وأنني التقيتبحياة واصطحبتها إلى هذا البيت؟ وأنها كانت ترقص لي لحظة كان يحتضر؟
أيكون اختارتلك اللحظة بالذات لأن يموت فيها إمعاناً منه في التغابي؟
ما زلت غير مصدِّقأن يكون في توقيت موته مصادفة, ولا أرى سبباً لتدهور مباغت لصحته. فلا شيء عندماالتقيت به قبل ذلك بيوم, يشي بأن حياته في خطر أو أنه يعاني من انتكاسة ما.
بلإنني لم أره ممازحاً ومرحاً كذلك اليوم. وأعرف خبث ذلك المرض بالذات, الذي من بعضمكره, إعطاؤك قبل أن يفتك بك, إحساساً بالتعافي. والكل من حولك سيقولون لك ذلك, لأنك فعلاً ستبدو في أحسن حالاتك.
أعرف هذا من أبي. غير أني من عمي أعرف أيضاًأن الإنسان يختار توقيت موته. وإلا كيف استطاع أن يموت في أول نوفمبر بالذات, تاريخاندلاع الثورة الجزائرية التي كان أحد رجالها؟
وجدت تأكيداً لهذا المقال أبحاثاًقام بها متشنيكوف, وهو عالم وضع في بداية القرن العشرين نظرية في وظائف خلاياالجسم, تثبت أن الإنسان لا يموت إلا إذا أراد حقاً ذلك, وأن موته العضوي ليس سوىاستجابة لمطلب نفسي ملحّ.
وإذا صدقت هذه النظرية تكون الثورة الجزائرية أودتبحياة عميّ برصاصة تأخر مفعولها القاتل أربعين سنة, وأكون أنا من أقنع زيان يومهابإطلاق رصاصة الرحمة على نفسه واشتهاء الموت حد استحضاره.
هذه الفكرة لم تكنإلا لتزيد من حزني, ولذا ما كادت فرانسواز تعود إلى البيت حتى بادرتها سائلاً عمّاإذا كانت أخبرت زيان بإقامتي عندها أم لا.
أجابت متعجبة:
- طبعاً لا..
ثمواصلت:
- ما كان لي أن أنسى ذلك بعد إلحاحك عليَّ بعدمإخباره.
تمتمت:
-شكراً!
وتنفست الصعداء. يا إلهي ما أصعب الإساءةللموتى.
واصلت فرانسواز, وهي تتعجب لأمري قائلة:
- زيّان يعرف بأنّ ليعلاقات. وهو ما كان يتدخل في حياتي. هذا الأمر كان واضحاً بيننا منذ البدء.. فلماذاأنت قلق؟
كم كان سيطول الكلام, لو أنا شرحت لها أسباب قلقي. لكن في مثل هذهالحالات, كنت أكتشف كم هي غريبة عني وكم الكلام معها يأخذ بعداً عبثيّاً. هذا برغمتأثرها البالغ عندما وقع عليها الخبر حتى أنها انهارت على الأريكة باكية مرددة:
قبل أن تسألني وهيتستمع إلى الرسائل الهاتفية, كيف أنني لم أعرف بنداءات المستشفى.-ce n'est pas possible...Oh mon Dieu..
أجبتها وقدفاجأني سؤالها, أنني كنت ذلك المساء خارج البيت. لكنها أجابت بما فاجأني أكثر, " آهصحيح.. ربما كنت يومها تتعشَّى عند مراد".
بقيت صامتاً للحظات, وأنا أستنتج منعبارتها أنها على اتصال دائم معه, وأنهما يتهاتفان كل يوم.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)