أكان في مقدوري تفادي هذه الخسارة؟ بإمكاني أن أؤجلها فقط. فما أنا إلايد في حياة كل شيء أمتلكه, تسبقني إليه يد, وتليني إليه أخرى, وجميعنا يملكه إلىحين.
الأفضل كان أن نستشير الأشياء, كما يستشير القاضي عند الطلاق الأطفال, مع نيريدون أن يذهبوا, مع أمهم؟ أم مع أبيهم؟
أيّ تجنِّ في حق الأشياء, ألا يكونلها حق اختيار مالكها؟ كم من المشاكل كانت ستحل لو أننا بدل استفتاء البشر, استفتينا ما يختلفون حوله.. ويقتتلون عليه.

وقفت أتأملها, كأنني أعتذر لهالأنني ما استطعت أن أحتفظ بها, كأنني بطول النظر إليها أحاول اغراءها بأن تلحق بي " خطيفة" كما تهرب عروس ليلة زفافها , وتلتحق بمن تحب.
الآن وقد أصبحت لغيري, صارلي الدور الأجمل, فقد أصلح أن أكون لها عشيقاً, كقسنطينة الجالسة منذ 25 قرناً فيحضن التاريخ, تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثاً مع النجوم. كان يلزمها عشيقيتغزّل بها, ويحنِّي قدميها المتدليتين في الوديان, يدلّلها, يغطيها ليلاً بالقبلكي تنام.. لا زوجاً سادياً يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعهاضرباً!
ألم يقل عبد الحق متحسراً على قدر قسنطينة " هذه أنثى أكثر فتنة من أنتكون امرأة لأحد, وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الأجنة العشوائية. فكيف أوثقوهاإلى هذه الجبال.. وأنكروا عليها أن تتململ انزلاقاً لحظة اغتصاب".

كنّا أناوهي في مناظرة صامتة. كانت, كنساء قسنطينة, أكثر جبناً من أن تحسم قدرها. وكانت منذلك النوع من اللوحات, الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة, فتتحول أمامها بدوركإلى لوحة, في لحظة ما, بدت لي كأنها ما عادت جسراً, بل أنا الذي مسخت جسراً. حتىإنها ذكرتني بـ" ماغريت" حين رسم غليوناً وسمّى لوحته " هذا ليس غليوناً".
أكانيلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلاثين سنة, ما كانجسراً ولا امرأة ولا مدينة ولا وطناً. ذلك أن " الوطن ليس مكاناً على الأرض إنهفكرة في الذهن".
إذن من أجل فكرة, لا من أجل أرض, نحارب ونموت ونفقد أعضاءناونفقد أقرباءنا وممتلكاتنا. هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟
أنسجن ونشردونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟
ومن أجل تلك الفكرة التي لا تموتحتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا, كي نؤمن تذكرة شحنٍ لرفاتنا, حتى نعود إلى ذلكالوطن الذي ما كان ليوجد لولا تلك الفكرة المخادعة!

كنت أفكر : ماالذي جعلهذه اللوحة هي الأهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جواباً إلا في قوله ذات مرة:" نحنلا نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه, كل لوحة نرسمها بعضو فينا". منذ زمان توقفت عن رسمالأشياء بيدي أو بقلبي. جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك بخطاي. هذا المعرضهو خريطة ترحالي الداخلي. أنت لا ترى على اللوحات إلا آثار نعلي. بيكاسو كان يقول" أذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلاة,تاركاً حذائي عند الباب". أنا لا أدخلاللوحة إلا بأتربة حذائي. بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد.. أرسم".
كانت, إذن, اللوحة التي رسمها زيان بقلبه, ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد إلىالنوم.
بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر. رجل عاش في مهب الجسور. له الريحكلها وكل هذه الأبواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح فيالمساء, لكأنها تقول لمن توقف عندها: " لا تطرق كل هذا الطرق.. ما عاد الرسامهنا".

هو الذي كان يعكس أسئلته جسوراً وأبواباً. تصورته كلما توقف أمام لوحةيجيب بجديته العابثة على سؤال لها:
-
لماذا توقفت عن الرسم؟
-
لأنسى .. " أنترسم يعني أن تتذكر"
-
لماذا تخليت عن الألوان المائية؟
-
لأن الألوانالزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك.. أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ.
-
يا سيدالسواد.. لماذا أنت ملفوفاً بكل هذا البياض؟
-
لأن الأبيض خدعة الألوان. يومطلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة, أن تغيِّر فستانها الأسود.. خلعته وارتدت ثوبها الأكثر بياضاً.
-
لماذا أنت على عجل؟
-
أمشي في بلادونعلي يتحسَّس تراب وطن آخر.
-
ولماذا حزين أنت؟
-
نادم لأني ارتكبت كلّ تلكالبطولات في حقّ نفسي.
-
ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جداراليتم؟
-
متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب.. حتى أتوهم الموت واقفاً!

***

مساءً , عدت إلى البيت محملاً بزجاجة خمرٍ فاخرة, وبقارورة عطر ملفوفةبكثير من الشرائط الجميلة هدية لفرانسواز.
كنا في أعياد نهاية السنة. كلّ شيءكان يذكرك بذلك. وأنت الذي لا تملك ثقافة الفرح, إمعاناً منك في الألم, عليك أنتنفق ما بقي من ثمن تلك التذكرة في تبضع مبهج.
فوجئت فرانسواز بحمولتي وهي تفتحلي الباب. سألتني إن كنت أحضرت التذاكر.
طمأنتها:
-
نعم. ثم واصلت: هذا العطرلك.
قالت وهي تقبلني:
-
شكراً. كيف فكّرت في هدية, في خضم هذه الأحزان؟
-
ليس أمامي إلا اليوم لأشكرك على كلّ شيء.
قرَّرت لليلةٍ أن آخذ إجازة من المآسيبما يقتضيه الموقف من تطرّف الحزن. إحساس عصيّ على الإدراك ينتابني دائماً. رغبة فيأن أعيش تعاسة خالصة أو سعادة مطلقة. أحبّ في الحالتين أن أدفع باللحظة إلى أقصاها, أن أطهو حزني بكثير من بهارات الجنون وتوابل السخرية, أحب أن أجلس إلى مائدةالخسارات بكل ما يليق بها من احتفاء, أن أحتسي نبيذاً فاخراً, أن أستمع إلى موسيقىجميلة, أنا الذي لم يكن لي وقت لأستمع إلى شيء عدا نشرات الأخبار.
وحدها تلكالسخرية, ذلك التهكم المستتر, بإمكانه أن ينزع وهم التضاد بين الموت والحياة, الربحوالخسارة.

قبل أن أجلس إلى كأسي, طلبت ناصر لأخبره بوفاة زيان, وكنت أجّلتالاتصال به إلى اليوم, حتى لا أجدني مضطرَّاً إلى الحديث مع مراد, الذي انتهى أمرهبالنسبة لي, وحتى لا ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني. فقد أصبح موتزيان قضيتي وحدي.
صاح ناصر من هول الخبر:
-
إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. ياخويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة.. كان يبان لا بأس عليه.. الدنيا بنت الكلبتدّي الغالي وتخلّي الرخيص.. كان سيد الرجال.
أخبرته أن الجثمان سينقل غداً إلىقسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءاً , إن كان يريد أن يقرأ الفاتحةعلى روحه.
قال إنه سيأتي طبعاً. وبدا متأسّفاً لغياب مراد الذي سافر قبل يومينإلى ألمانيا. كان هذا أجمل خبر زفّه لي. سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة. قلت " لا أعتقد". قال " موعدنا إذن غداً".