قبل أن تقترب, فكَّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة, كان يكفي أن تستغني عنه ليشعر خالدالآن ببرد أقلّ.
كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء, لتصبح "نجمة" فهل ليس فيخزانتها معطف بسيط يليق بفاجعة كبيرة؟
أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي. حتماً كانت " نجمة", تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد والواقعة في قبضة التاريخ. مثلهاكان لها كل وجوه النساء ولها كل الأسماء, إلا أنها اليوم خلعت ملايتها السوداء التيارتدتها حداداً على صالح باي, وارتدت معطف فرو اقتناه لها أحد قطّاع طرقالتاريخ.
من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئاً من غنائمه؟
كانت تتقدمببطء لا يشبه خطوتها, ألأن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟
منذ زفافها وهي تمشيكي تبلغ هذا الجثمان.
عرَّفني ناصر بأخته. كان أولى أن أعرفه بها. مدَّت يدهانحوي. المرأة ذات معطف الفرو, لم تقل شيئاً, عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظةمصافحة.
ليس من أجل ناصر. بل من أجله هو, تحاشينا أن تطول بيننا النظرات. لم نكننريد أن نشهده ميتاً على ما كان يعلمه حياً.
في حضرته, كنّا نتبرَّأ من ذاكرتناالعشقية, مستخفِّين بذكاء الموتى.
ضمَّني ناصر طويلاً إلى صدره. التصقت دمعة علىخدِّه بخدي. قال كلمات في بياض الكوما, وبكى. بدا لي كأنه شاخ, كأنه هو أيضاً ماعاد هو, كأنه أصبح الطاهر عبد المولى. كانت هكذا ملامح أبيه كما خلَّدتها صورالثورة.
ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها, يوم كان في قسنطينة, أيّ قدر عجيبجاء به من ألمانيا, ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أرادأن يخطفها من الفكّ الساخر للموت؟
موتاً مكثفاً في دقّته, مباغتاً في توقيته, ذكيَّا في انتقاء شهوده, حتى لكأنه وصية.
أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلكالمكان مصادفة. في المصادفة شيء من الفوضى لا يتقنها الموت.
لا يوجد سوء ترقيم, ولا سوء تدبير في هذا العالم الجائر. يوجد ما يسميه رنيه شار في إحدى قصائده " فوضىالدقة". إنه الموت المشاغب الجبار, كما في تراجيديا إغريقية.
أيّ مأساة أن تخلفشيئاً على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهداً عليه!
واقفين كناأمام أسطورة رجل عاديّ, بأحلام ذات أقدار ملحمية.
رجل يدعى خالد بن طوبال. فمنذاجتمعنا حوله استعاد اسمه الأول, وبهذا الاسم يعود إلى قسنطينة. الموت غيَّر اسمهوكشف أسماءنا.
أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ:
- خالد.. أما زلت خالد؟
مثلهأكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو:
- حياة.. أما زلت حياة؟
ذلك أنها مذ دخلتهذا المكان أصبحت " نجمة".
نجمة المرأة المعشوقة, المشتهاة, المقدسة, المرأةالجرح, الفاجعة, الظالمة المظلومة, المغتصبة, المتوحشة, الوفية الخائنة. " العذراءبعد كل اغتصاب", " ابنة النسر الأبيض والأسود" التي " يقتتل الجميع بسببها ولكنهملا يجتمعون إلا حولها".
هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك. البنت التي لم تنجبها. الأم التي تخلت عنك. هي المرأة التي ولد حبها متداخلاً مع الوطن, متزامناً معفجائعه, حتى لكأنها ما كانت يوماً سوى الجزائر.
ذلك أن قصة " نجمة" في بعدهاالأسطوري, كأحد أشهر قصص الحب الجزائري, ولدت إثر مظاهرات 8 مايو 1945 التي دفعتفيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلاثين ألف قتيل في أول مظاهرة جزائريةتطالب بالحرية.
كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر, يقاد مع الآلاف إلىالسجن, وكان في طريقه إلى معتقله الأول يرى شباباً مكبَّلين تجرهم شاحنات إلىعناوين مجهولة, وآخرين يعدمون في الطريق بالرصاص.
وفي الزنزانة الكبيرة التيضاقت بأسراها, كان العسكر يأتون كلّ مرة لاصطحاب رجال لن يراهم أحد بعد ذلكأبداً.
عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتاً ليأويه. كانت أمه قدجُنَّت ظنّاً منها أنه قُتل, وأُدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية. قصد الشاب بيتخالَيْه المدرِّسَين فوجد أنهما قُتِلا,ذهب إلى بيت جدِّه القاضي فوجد أنهماغتالوه,غير أنّ الطامّة كانت عندما علم أنهم في غيابه زوَّجوا ابنة عمّه التي كانيحبّها.
في لحظة سهو, اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبِّها أبداً, عمراًمن الهذيان أصبحت فيه " نجمة" كل النساء. فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحياتكاتب ياسين تظهر " نجمة" من تحت كل الملايات ومن تحت كل الأسماء.
ألم يقل في آخرعيد ميلاد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت 36 سنة من حياتها: " ولدت في 8 مايو 45 وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى بها الأمر فيمصحِّ المجانين, ثم ولدت من جديد مع " نجمة", أحبها ذلك الحب الأول, الحب الموجع فياستحالته, سعيد بحزني بها, أكتبها, لم أكتب سواها, كمجنون".
هو الكاتبالمسرحي, لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة, وما عاد يعرف ملامحشيخوختها, ستأتي لتحضر العرض الوحيد والأخير لمشهد موته, في مسرحية حياة بدأ فصلهاالأول منذ نصف قرن يوم رآها.
فما كان ليصدق أن النص الأخير لأيّ مسرحيّ, يرتجلهالقدر, ووحده الموت يوزع فيه الأدوار على الناس بين متفرجين وممثلين, لا دقّاتثلاثاً تسبق رفع الستار, فالقدر لا ينبهك عندما يحين دورك ببدء المسرحية, لا في أيةجهة من المسرح ستكون, ولا من سيكون الحضور يومها.
وهي, هي الباكية الآنباستحياء, المحتمية من الذاكرة بفروها, عندما زارت زيان في المستشفى وأهدته ذلكالكتاب, أكانت تدري أنها تهديه قدره, وتطلعه عليه كنبوءة؟
وعندما كتبت علىالصفحة الأولى " أحببت هذا الكتاب, حتماً سيعجبك" ماذا كان في كتاب " توأما نجمة" ما تريد إطلاعه عليه, غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين, وما كانت هي الروائيةلتتوقع أنها مثل " نجمة" ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الأخير لموت رجل عشقهاورسمها كمجنون, فسلَّمته للغربة والشيخوخة والمرض.
لم تفارقني فكرة تطابقالموقفين. مثل " نجمة", ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد لولا وجود أخيها. الفرق أنّ ناصر يقف هنا مع المشاهدين, بينما كان أخو نجمة مسجىً جوار حبيبها, فيقاعة ترانزيت الأموات كهذه!
في ذلك الموت العجيب " الممسرح" لكاتب ياسينوابن عمّه مصطفى كاتب, شيء يتجاوز الخيال المسرحي نفسه. يزيد من غرابته أن الرجلينكانا رجلي مسرح. كان مصطفى كاتب الذي عرفته شخصياً مديراً للمسرح الوطني فيالسبعينات قبل أن يفتك به الداء. بينما كان كاتب ياسين يتزعَّم المسرح المعارضويقدِّم عروضه بالعامِّية والأمازيغية في التجمعات العمّالية.
وإذا كان ياسيننحيلاً وعصبياً ويعرف جغرافية السجون والمعتقلات, ومن بعدها عناوين المصحّاتالعقلية والخانات, كان مصطفى كاتب تقيَّا ورصيناً ووسيماً وسامة أرستقراطية
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)