كلمات وأقع في ورطةعاطفية مع عجوز, وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها, ومسؤول عن إيصالها حتىقسنطينة.
أهي عقدة يتمي؟ دوماً خطفتني العجائز وغيَّرن وجهتي.
فما صادفتواحدة تنوء كهولتها بقفّةٍ, إلا ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعياً أنّ وجهتها تصادفوجهتي. مرة تسبب لي الأمر في صفعة تأديبية من أبي, الذي لم يصدِّق عذر تأخري فيالعودة من المدرسة.
كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها فيالبيت, وقضيت ساعة أمشي جوارها حاملاً محفظة المدرسة بيد, وقفّتها بيديالأخرى.
كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي.

كانتالعجوز الجالسة جواري تسافر لأول مرّة بمفردها, وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها التيوضعت مولودها الأول. وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريباً كل شيء عنحياتها.
لا سرّ للعجائز, كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ, له صبرالاستماع إلى خيبات كهولتهن.
كانت مرعوبة من الطائرة, وتريد أن تفهم كل شروحاتالمضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة وقناع الأوكسجين وحزام الأمان ومخارج الطوارئ. ثمتعود من رعبها وتستسلم للمكتوب وتقول إن الأعمار بيد الله, وتواصل ثرثرتها عن صهرهاالذي اشترى محلّ قصابة في فرنسا, وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للإقامة فيباريس, بعد أن كره العيش في قسنطينة التي كانت ملاذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء. كان المحتاج يقصدها لعلمه بثراء أهلها وكرمهم, وأصبح الآن يقيم فيها مع آلافالفقراء الذين جاؤوها من كل صوب وأفقروا أهلها.
-
منين جاوْ يا ولدي " جوجوماجوج" هاذُو اللي كلاوْ الدنيا.. وهججونا من البلاد.. يا حسرة راحوا دار شكونوشكون. بقاوْ غير الرعيان. على بالك أنا بنت شكون؟
ولم أكن على استعداد لأعرفهذه العجوز ابنة مَن, ومن أية شجرة تنحدر. فأنا لم أكن هناك لأخطبها, ولكن لا يمكنأن تمنع عجوزاً من التباهي بأصلها, وهو كل ما بقي لها في زمن الذلّ.
كانت منالعائلات العريقة في قسنطينة. اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لإنتاج التبغ في الجزائر. كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً, وأفهم ألا تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها زوجةلرجل اغتنى في الغربة, ولم يغتنِ عن إرث أباً عن جدّ, ولا فكرة أن تتقاسم الطائرةمع " الرعيان" و "بني عريان".. ولكن:
-
هذي الدنيا يا امّا واشنديرو..

في غمرة اندهاشهم بها, أطلق القدامى على قسنطينة اسم " المدينةالسعيدة", وهذه العجوز الأميّة كم وفَّرت عليها أمّيّتها من ألم, فهي لن تقرأ يوماًما قيل في قسنطينة. هي فقط ترى ماآلت إليه. قسنطينة المكابرة لا تدري ماذا تفعلبثراء ماضٍ تمشي في شوارعه حافية.
قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الآثام ويحكمهاالضجر المتفاقم, وهذيان الأزقة المحمومة المثقلة بالغرائز المعتّقة تحتالملايات.
لم تتغيَّر. ما زال يرعب نساءها الجميلات التعيسات, الشهيّاتالشهوانيات, الخوف المزمن من نميمة أناسها الطيِّبين الخبثاء. ولذا, هي تجلس صامتةعلى يساري, وأنا قدري حيث أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها.
عندما, بعد ذلك, مرَّتالمضيفة تعرض علينا الجرائد, سمعت الفتاة لأول مرة تنطق لتطلب جريدتي "الوطن" و "الحرية". لم يبق من نصيبي سوى " الشعب" و "المجاهد". تقاسمنا بالتساوي أكاذيبالعناوين.
يحضرني دائماً في مثل هذه المواقف, قول ساخر لبرنارد شو معلّقاً علىتمثال الحرية في أمريكا " إن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفقدها أكثر" وهو ما يفسّر وجود أكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائروالدمار.

إمعاناً منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها, نذهب حتى إضافة مانفتقده إلى أسماء أوطاننا. ولأن الجزائر خرجت إلى الوجود "جمهورية ديمقراطيةشعبية", فقد حسمنا منذ الاستقلال مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية, وتفوقنا منذ البدءفي ما يخصُّ الحريات على أية دولة أوربية تحمل اسماً من كلمة واحدة!
أمة تحتفيبخساراتها, وتتوارث منذ الأندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي الفاخرمعها.
عندما نغتال رئيساً نسمِّي مطاراً باسمه, وعندما نفقد مدينة نسمِّميباسمها شارعاً, وعندما نخسر وطناً نطلق اسمه على فندق,وعندما نخنق في الشعب صوته, ونسرق من جيبه قوته, نسمّي باسمه جريدة.

انشغلنا بتصفّح الجرائد. لم نتبادلأية كلمة. كانت امرأة غامضة كبيوت نوافذها إلى الداخل, وكان جميلاً الجلوس بمحاذاةأنوثتها المربكة التي توقظ الرواسب العاطفية المتراكمة فيك, وتجعلك تكتشفها منمشربيات النوافذ.
عبرتني فكرة مجنونة: ماذا لو كان الحب يجلس على يساري, أناالذي لم أقاوم يوماً إغراء امرأة صامتة, ولا جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيهابلغز.
عندما جاؤوا بوجبة العشاء, بدا على العجوز حماسة بددت فجأة خوفها منالموت, وأوقفت سيل الأسئلة التي كانت تطاردني بها, عن اهتزاز الطائرة كما تبدّى لهامن النافذة. بل إنّها استفادت من فقدان شهيتي للأكل, لاستئذاني في تناول بعض ما فيصينيتي.

أثناء ذلك, كانت الغادة القسنطينية التي على يساري تأكل بدون لهفة, كما لو أنها تأكل بحياءٍ مترفّع, كذلك الزمن الذي كانت النساء يختبئن عن الأنظارليأكلن, وكأن كل متعة لها علاقة بالجسد لا بد أن تمارسها النساء سرّاً, وأن أيّ جوعجسدي لا يليق بامرأة إشهاره.

بعد العشاء, أُخفتت الأضواء, وقامت المضيفةبتوزيع بعض الألحفة على المسنين والأطفال, فطلبت لحافاً للعجوز عسى النوم أن يخدرعضلة الثرثرة بين فكيّها, وتكفّ مع كلّ مطبّ هوائيّ عن التبؤ لنا بكارثةجوّيّة.
مسكينة هي, تعتقد أن لا أخطر من طائرة محلقة في السماء.
لا تدري أنالموت قد يدبِّر لك مقلباً آخر, وينتطرك أرضاً عند سلّم الطائرة, كما حدث مع عبدالعزيز, الصيدلاني المعروف في العاصمة بحبه للحياة, وبخدماته الكثيرة للناس. قائدالطائرة كان من معارفه, فقام بنقله للدرجة الأولى وأوصى المضيفات به خمراً, فرحنيسقينه كؤوس الويسكي الواحدة بعد الأخرى, بحيث كان بعد ساعتين من الطيران بين باريسوالجزائر غير قادر على الوقوف على رجليه. وما كاد يضع قدميه على أول درج للطائرةحتى تدحرج من سلّمها الحديدي الضيق الذي كان يهتزّ تحت قدميه, وانتهى جسده فيالأسفل ليموت بعد يومين إثر نزيف في الدماغ. فلكونه كان من ركاب الدرجة الأولى, وأول من نزل السلم لم يكن أحد ليسبقه ويحول دون تدحرجه حتى الموت!
فهل كان قائدالطائرة يدري أنه بتغيير درجته من الثانية إلى الأولى, كان يتمادى في تدليله حدّإيصاله إلى مرتبة " شهيد" من الدرجة الأولى؟

في الطائرة, كما في الحياة, عليك أن تحترم قانون المراتب, ولا تتحايل لتقفز مرتبة, فرّبما كان في ذلك المكسبهلاكك. عليك أن تعرف منذ البدء أين يوجد مكانك, في الأولى أم في الثانية. فأيّتحايل قد يحيلك إلى أسفل.. مع الحقائب!
عليك أيضاً أن تتأكد أين يوجد مقعدك: علىيمين أم على شمال الحب, فالمأساة تبدأ عندما يتسلى القدر بفوضى ترقيمالمقاعد.