ذكر الخبر عن وصاياه

ذكر عن الهيثم بن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجهًا إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أيامًا والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاثٍ بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينًا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان؛ يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكًا. فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئًا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدًا، يصر مفتاحه في كم قميصه. قال: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم - فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك. ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر؛ فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث؛ حتى بلغ سبعة؛ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة؛ فإياك أن تستبدل بها؛ فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور؛ فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر؛ فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واتكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك.، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعسن برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وإني غير راجع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختومًا، فإذا بلغك أني قد مت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين أحب أن تقضيه وتضمنه، قال: هو علي يا أمير المؤمنين، قال: فإنه ثلثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها. قال: أفعل، هو علي. قال: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لأخوتك الأصاغر.
قال: نعم، قال: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة. قال: أفعل، قال: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قال: أفعل، قال: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع. قال: والمتاع والثياب، سلمه لهم قال: أفعل. قال: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه. ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلًا بالعمرة والحج، قد ساق هدية من البدن، وأشعر وقلد؛ وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.
وذكر أبو يعقوب بن سليمان، قال: حدثتني جمرة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الأيمان ألا تفتح بعض الخزائن، ولا تطاع عليها أحدًا إلا المهدي؛ ولا هي؛ إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث؛ حتى يفتحا الخزانة. فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه إلا يفتحه ولا يطلع عليه أحدًا حتى يصح عندها موته. فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولى الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة؛ فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم؛ وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذاك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.
وذكر عن إسحاق بن عيسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله؛ إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة؛ وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي؛ يجعل لك فيها كربك وحزنك مخرجًا، أو قال: فرجًا ومخرجًا - ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. احفظ يا بني محمدًا في أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم. والزم الحلال فإن ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل. وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن الله لو علم أن شيئًا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم؛ ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، واحسم للعدو، وأنجع في الدواء. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة. وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية. واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها. وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة؛ وهي من شيم الزمان. وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع. جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولًا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
قال: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.
وذكر عمر بن شبة عن سعيد بن هريم، قال: لما حج المنصور في السنة التي توفي بها شيعة المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها؛ ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد؛ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله لو لم يكن إلا أن يقول قولًا لما خفت عليك، فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.
وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم ".
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ** سنوك، وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ** لك اليوم من حر المنية مانع!
قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى شيئًا يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى على صدر البيت شيئًا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: " بسم الله الرحمن الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، فأمر بفكيه فوجئا. وقال: ما وجدت شيئًا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرًا مما كان، وركب فرسًا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر - وكان آخر منزل بطريق مكة - كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.
وذكر عن محمد بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قال: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:
أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن ** أحسنت بالقصد، كل ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا ** دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك ** إذا انقضى ملكه إلى ملك
حتى يصيرا به إلى ملك ** ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض والمر ** سي الجبال المسخر الفلك
فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.
وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يومًا أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جوابًا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلًا ينشدني هذه الأبيات:
أخي أخفض من مناكا ** فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من ** تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص ال ** عبد الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته ** والأمر فيه إلى سواكا
فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت. فقلت: خيرًا رأيت يا أمير المؤمنين. فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.
وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بمكة؛ صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، كذلك قال هشام بن محمد ومحمد بن عمر وغيرهما.
وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.
وأم المهدي أم موسى بنت المنصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميري.
خلافة المهدي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس

ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة