ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفرا مصر وتولية جعفر عمر بن مهران إياها

ذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلًا، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلًا أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباسًا خسيسًا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهمًا، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلًا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلامًا؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان وفلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى.
قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصنًا.
وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فما كان فيها من ذلك عزل الرشيد - فيما ذكر - جعفر بن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بن سليمان، وعزله حمزة بن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بن يحيى؛ إلى ما كان يليه من الأعمال من الري وسجستان.
وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.
وكان فيها - فيما ذكر الواقدي - ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة؛ ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر.
وحج بالناس فيها هارون الرشيد.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددًا لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوًا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح.
وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة.
وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانًا من الرشيد، ووصله ورأسه.
وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية.
ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها

وفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعًا.
وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ** عند الحروب إذا ما تأفل الشهب
حامٍ على ملك قوم عز سهمهم ** من الوراثة في أيديهم سبب
أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ** كتائب ما لها في غيرهم أرب
كتائب لبني العباس قد عرفت ** ما ألف الفضل منها العجم والعرب
أثبت خمس مئين في عدادهم ** من الألوف التي أحصت لك الكتب
يقارعون عن القوم الذين هم ** أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا
إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق ** يبقى على جود كفيه ولا ذهب
ما مر يوم له مذ شد مئزره ** إلا تمول أقوام بما يهب
كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها ** للطالبين مداها دونها تعب
يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا ** ينبو إذا سلت الهندية القضب
ولا الرضى والرضى لله غايته ** إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب
قد فاض عرفك حتى ما يعادله ** غيث مغيث ولا بحر له حدب
قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان:
ألم تر أن الجود من لدن آدمٍ ** تحدر حتى صار في راحة الفضل
إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ** فيا لك من هطل ويا لك من وبل
إذا أم طفل راعها جوع طفلها ** دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل
ليحيا بك الإسلام إنك عزه ** وإنك من قوم صغيرهم كهل
وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول:
تخيرت للمدح بن يحيى بن خالد ** فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا
له عادة أن يبسط العدل والندى ** لمن ساس من قحطان أو من تنزرا
إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ** له والد يعلو سريرًا ومنبرا
يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ** لدى الدهر إلا قائدًا أو مومرا
ومدحه سلم الخاسر، فقال:
وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ ** تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بن يحيى ** نفير ما يوازنه نفير
له يومان: يوم ندىً وبأسٍ ** كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ ** فهمته وزير أو أمير
وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يومًا بعد ما أغفلني حينًا، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعًا، فاستوى جالسًا - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم. قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئًا، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطًا سجزيًا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف.
قال: ولما قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال:
حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ** بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا