وهذا خروجٌ عمَّا ذهب إليه الخليل. ولقد كثرت في أمرك أقاويل النَّاس: فمنهم من يزعم أنَّك في ملك النُّعمان اعتقلت، وقال قومٌ: بل الذي فعل بك ما فعل عمرو بن هندٍ. ولو لم يكن لك أثرٌ في العاجلة إلا قصيدتك التي على الدال، لكنت قد أبقيت أثراً حسناً. فيقول طرفة: وددت أنّي لم أنطق مصراعاً،وعدمت في الدار الزّائلة إمراعاً، ودخلت الجنَّة مع الهمج والطَّغام، ولم يعمد لمرسي بالإرغام،وكيف لي بهدءٍ وسكون، أركن إليه بعض الركون؟ " وأمّا القاسطون فكانوالجهنِّم حطباً " .
ويلفت عنقه يتأمّل، فإاذ هو بأوس بن حجر، فيقول: يا أوس، إنَّ أصحابك لا يجيبون السائل فهل لي عندك من جوابٍ؟ فإنِّي أريد أن أسألك عن هذا البيت:


وفارقت وهي لم تجرب، وباع لها
من الفصافص بالنُّمِّيِّ سفسير فإنّه في قصيدتك التي أوِّلها:


هل عاجلٌ من متاع الحيِّ منظور
أم بيت دومة بعد الوصل مهجور ويروي في قصيدة النَّابغة التي أوَّلها:


ودِّع أمامة والتّوديع تعذير
وماوداعك من قفَّت به العير وكذلك البيت الذي قبله:


قد عرِّيت نصف حولٍ اشهراً حدداً
يسفي على رحلها في الحيرة المور وكذلك قوله:


إنّ الرَّحيل إلى قومٍ، وإن بعدوا
أمسوا ومن دونهم ثهلان فالنِّير وكلاكما معدودٌ في الفحول، ايِّ شيءٍ يحمل ذلك؟ فلم تزل تعجبني لاميَّتك التي ذكرت فيها الجرجة وهي الخريطة من الأدم فقلت لمّا وصفت القوس:


فجئت ببيعتي مولياً لا أزيده
عليه بها، حتَى يؤوب المنخَّل ثلاثة أبرادٍ جيادٍ، وجرجةٌ
وأدكن من أري الدَّبور معسَّل فيقول أوسٌ: قد بلغني أنَّ نابغة بني ذبيان في الجنَّة، فأسأله عمَا بدا لك فلعلَّه يخبرك، فإنَّه أجدر بأن يعي هذه الأشياء، فأمَّا أنا فقد ذهلت: نارٌ توقد، وبنانٌ يعقد؛ إذا غلب عليَّ الظَّمأ، رفع لي شيءٌ كالنّهر، فإذا اغترقت منه لأشرب، وجدته سعيراً مضطرماً، فليتني أصبحت درماً، وهو الذي يقال فيه: أودى درمٌ. وهو من بني دبِّ بن مرَّة بن ذهل بن شيبان ولقد دخل الجنَّة من هو شرَّ منِّي، ولكنَّ المغفرة أرزاقٌ، كأنَّها النَّشب في الدار العاجلة. فيقول، صار وليُّه من المتبوعين، وشانئه بالسفَّه من المسبوعين: إنّما أردت أن آخذ عنك هذه الألفاظ، فأتحف بها أهل الجنَّة فأقول: قال لي أوسٌ، وأخبرني أبو شريح. وكان في عزمي أن أسألك عمّا حكاه سيبويه في قولك:


تواهق رجلاها يداه، ورأسه
لها قتبٌ خلف الحقيبة رادف فإنَّي لا أختار أن ترفع الرِّجلان واليدان، ولم تدع إلى ذلك ضرورةٌ،لأنِّك لو قلت: تواهق رجليها يداه لم يزغ الوزن؛ ولعلَّك، إن صحَّ قولك لذلك، أن تكون طلبت المشاكهة، وهذا المذهب يقوى إذا روي: يداها بالإضافة إلى المؤنَّث، فأمَّ في حال الإضافة إلى ضمير المذكَّر فر قوَّة له.
وإنّي لكارهٌ قولك: والخيل خارجةٌ من القسطال أخرجت الاسم إلى مثالٍ قليلٍ، لأنَّ فعلاً لم يجيء في غير المضاعف، وقد حكي: ناقةٌ بها خزعالٌ أي بها ظلعٌ. ويرى رجلاً في النَّار لا يميّزه من غيره، فيقول: من أنت أيُّها الشَّقيُّ؟ فيقول: أنا أبو كبيرٍ الهذلي، عامر بن الحليس، فيقول: إنَّك لمن أعلام هذيلٍ، ولكني لم أوثر قولك:


أزهير هل عن شيبةٍ من معدل
أم لا سبيل إلى الشَّباب الأوَّل وقلت في الأخرى:


أزهير هل عن شيبةٍ من مصرف
أم لا خلود لعاجزٍ متكلِّف وقلت في الثّالثة: أزهير هل عن شيبةٍ من معكم أي من محبس فهذا يدلُّ على ضيق عطنك بالقريض، فهلاّ ابتدأت كلَّ قصيدة بفنٍّ؟ والأصمعيُّ لم يرو لك إلاَّ هذه القصائد الثلاث، وقد حُكي أنّه يروي عنك الرائية التي أوَّلها: أزهير هل عن شيبةٍ من مقصر وأحسن بقولك:


ولقد وردت الماء لم يشرب به
بين الشّتاء إلى شهور الصّيِّف إلاّ عواسل كالمراط معيدةً
باللَّيل مورد أيِّمٍ متغضِّف زقبٌ يظلُّ الذِّئب يتبع ظلِّه
فيه، فيستنُّ استنان الأخلف فصددت عنه ظامئاً، وتركته
يهتزُّ غلفقه، كأن لم يكشف فيقول أبو كبيرٍ الهذليّ: كيف لي أن أقضم على جمراتٍ محرقاتٍ، لأرد عذاباً غدقاتٍ؟ وإنَّما كلام أهل سقر ويلٌ وعويلٌ، ليس لهم إلاّ ذلك حويلٌ، فاذهب لطيّتك، واحذر أن تشغل عن مطيَّتك. فيقول، بلَّغه الله أقاصي الأمل: كيف لا أجذل وقد ضمنت لي الرَّحمة الدائمة، ضمنها من يصدق ضمانه، ويعمُّ أهل الخيفة أمانة؟ فيقول: ما فعل صخر الغيِّ؟ فيقال: هاهو حيث تراه. فيقول: يا صخر الغىِّ ما فعلت دهماؤك؟ لا أرضك لها ولا سماؤك! كانت في عهدك وشبابها رؤدٌ، يأخذك من حبابها الزَّؤد، فلذلك قلت:


إنّي بدهماء عزِّ ما أجد
يعتادني من حبابها زؤد! وأين حصل تليدك؟ شغلك عنه تخليدك، وحقّ لك أن تنساه، كما ذهل وحشيُّ دمي نساه. وإذا هو برجلٍ يتضوّر، فيقول: من هذا؟ فيقال: الأخطل التَّغلبيّ، فيقول له: ما زالت صفتك للخمر، حتى غادرتك أكلاً للجمر، كم طربت السَّادات على قولك:


أناخوا فجرّوا شاصياتٍ كأنَّها
رجالٌ من السُّودان لم يتسربلوا فقلت: اصبحوني، لا أبا لأبيكم
وما وضعوا الأثقال إلاّ ليفعلوا فصبوا عقاراً في الإناء كأنَّها
إذا لمحوها، جذوةٌ تتأكّل وجاؤوا ببيسانيَّةٍ هي، بعدما
يعلُّ بها السّاقي، ألذُّ وأسهل تمرُ بها الأيدي سنيحاً وبارحاً
وتوضع باللَّهم حيَّ، وتحمل فتوقف أحياناً، فيفصل بيننا
غناء مغنٍّ، أو شواءٌ مرعبل فلذَّت لمرتاحٍ، وطابت لشاربٍ
وراجعني منها مراحٌ وأخيل فما لبَّثتنا نشوةٌ لحقت بنا
توابعها ممّا نُعلّ وننّهل تدبُّ دبيباً في العظام كأنَّه
دبيب نمالٍ في نقاً يتهيّل ربت وربا في كرمها ابن مدينةٍ
مكبٌّ على مسحاته يتركَّل إذا خاف من نجمٍ عليها ظماءةً
أدَّب إليها جدولاً يتسلسل فقلت: اقتلوها عنكم بمزاجها
وحبَّ بها مقتولةً حين تقتل فقال التَّغلبيّ: إنّي جررت الذّارع، ولقيت الدَّارع، وهجرت الآبدة، ورجوت أن تدعى النَّفس العابدة، ولكن أبت الأقضية. فيقول، أحلَّ الله الهلكة بمبغضيه: أخطأت في أمرين، جاء الإسلام فعجزت أن تدخل فيه، ولزمت أخلاق السفيه؛ وعاشرت يزيد بن معاوية، وأطعت نفسك الغاوية؛ وآثرت ما فني على باقٍ، فكيف لك بالإباق؟ فيزفر الأخطل زفرةً تعجب لها الزَّبانية، ويقول: آه على أيّام يزيد أسوف عنده عنبرا، ولا أعدم لديه سيسنبرا؛ وأمزح معه مزح خليل، فيحتملني احتمال الجليل؛ وكم ألبسني من موشيّ، أسحبه في البكرة أو العشيّ، وكأنِّي بالقيان الصّدحة بين يديه تغنِّيه بقوله:


ولها بالماطرون إذا
أنفذ النّمل الذي جمعا خلفةٌ حتى إذا ظهرت
سكنتت من جلِّقٍ بيعا في قبابٍ حول دسكرةٍ
حولها الزّيتون قد ينعا وقفت للبدر ترقبه
فإذا بالبدر قد طلعا ولقد فاكهته في بعض الأيَّام وأنا سكران ملتخٌّ فقلت:


اسلم سلمت أبا خالدٍ
وحيَّاك ربُّك بالعنقز اكلت الدَّجاج فأفنيتها
فهل في الخنانيص من مغمز فما زادني عن ابتسام، واهنزَّ للصِّلة كاهتزاز الحسام فيقول، أدام الله تمكينه: من ثمَّ أتيت! أما علمت أنّ ذلك الرجل عاندٌ، وفي جبال المعصية ساندٌ؟ فعلام اطَّلعت من مذهبه: أكان موحِّداً، أم وجدته في النُّسك ملحداً؟ فيقول الأخطل: كانت تعجبه هذه الأبيات:


أخالد هاتي خبِّريني وأعلني
حديثك، إنَّي لا أسرُّ التنّاجيا حديث أبي سفيان لمّا سما بها
إلى أحدٍ حتى أقام البواكيا وكيف بغى أمراً عليَّ ففاته
وأورثه الجدُّ السَّعيد معاويا وقومي فعلَّيني على ذاك قهوةً
تحلَّبها العيسيُّ كرماً شآميا إذا ما نظرنا في أمورٍ قديمةٍ
وجدنا حلالاً شربها المتواليا فلا خلف بين النَّاس أنَّ محمّداً
تبوّأ رمساً في المدينة ثاويا فيقول، جعل الله أوقاته كلَّها سعيدةً: عليك البهلة! قد ذهلت الشّعراء من أهل الجنّة والنَّار عن المدح والنَّسيب، وما شُدهت عن كفرك ولا إساءتك. وإبليس يسمع ذلك الخطاب كلُّه فيقول للزَّبيانية: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالكٍ! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرّة؟ فيقول: ألا تسمعون هذا المتكلِّم بما لا يعنيه؟ قد شغلكم وشغل غيركم عمّا هو فيه! فلو أنَّ فيكم صاحب نحيزةٍ قويَّةٍ، لوثب وثبةً حتى يلحق به فيجذبه إلى سقر. فيقولون: لم تصنع شيئاً يا أبا زوبعة! ليس لنا على أهل الجنَّة سبيلٌ. فإذا سمع، أسمعه الله محاَّبه، ما يقول إبليس، أخذ في شتمه ولعنه وإظهار الشَّماتة به. فيقول، عليه اللَّعنة: ألم تنهوا عن الشَّمات يا بني آدم؟ ولكنَّكم، بحمد الله، ما زجرتم عن شيءٍ إلاّ وركبتموه. فيقول، واصل الله الإحسان إليه: أنت بدأت آدم بالشَّماتة، والبادىء أظلم: ثمَّ يعود إلى كلام الأخطل فيقول: أأنت القائل هذه الأبيات:


ولست بصائمٍ رمضان طوعاً
ولست بآكل لحم الأضاحي ولست بقائمٍ كالعير أدعو
قبيل الصُّبح: حيَّ على الفلاح! ولكنَّي سأشربها شمولاً
وأسجد عند منبلج الصِّباح! فيقول: أجلٌ، وإنَّي لنادمٌ سادمٌ، وهل أغنت النَّدامة عن أخي كسعٍ؟ ويملُّ من خطاب أهل النَّار، فينصرف إلى قصره المشيد، فإذا صار على ميلٍ أو ميلين، ذكر أنَّه ما سأل عن مهلهل التَّغلبيَّ ولا عن المرقِّشين وأنَّه أغفل الشَّنفرى وتأبَّط شرّاً، فيرجع على أدراجه، فيقف بذلك الموقف ينادي: أين عديُّ ابن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان. فيقول: الذي يستشهد النُّحويُّون بقوله: