وما كل ذي لبٍ بمؤيتك نصحه
وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله. وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي. ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي تحامل بشار حتى قتل، واختلف في سنه: فقيل كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر،ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت فيما تقدم لأني عقدته بمشيئة الله، وإن الله لحليم وهاب.
وذكر صاحب كتاب الورقة جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة، وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم، بها علام الغيوب. وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفاً من السيف، فالآن ظهر نجيث القوم، وانغاصت التريكة عن أخبث رأل.
وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق، فدعا المتشيعة في بعض الأيام، فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال:


أصبحت جم بلابل الصدر
متقسم الأشجان والفكر قال صاحب المنزل: ويحك! مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى، فلقيه صاحب المأدبة فقال له: يا هذا، أردت أن توقعني فيما أكره( خوفاً من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق) فقال: ادعهم ثانية وأعملني بمكانهم. فلما حصلوا عنده، جاء الزنديق فقال:


أصبحت جم بلابل الصدر
متقسم الأشجان والفكر فقالوا: ويحك! مما ذا؟ فقال:


مما جناه على أبي حسن
عمر وصاحبه أبو بكر وانصرف. ففرح الشيعة بذلك، ولقيه صاحب المنزل فقال: جزيت عني خيراً، فقد خلصتني من الشبهة! وكان يجلس في مجلس البصرة جماعة من أهل العلم، وكان فيهم رجل زنديق له سيفان، قد سمى أحدهما " الخير " والآخر " الفلح " فإذا سلم عليه رجل من المسلمين قال: صبحك الخير ومساك الفلح ثم يلتفت لأصحابه الذين قد عرفوا مكان السيفين فيقول:


سيفان كالبرق إذا البرق لمح
فأما قول الحكمي: تيه مغن وظرف زنديق فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل: إنه أراد رجلاً من بني الحارث كان معروفاً بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان،وقوله في صدر هذا البيت:


نديم قيلٍ محدثه ملكٍ
فهو نحو من قول امريْ القيس:


فاليوم أشرب غير مستحقب
إثماً من الله ولا واغل وليس ينبغي أن يحمل على قول من وقف على الهاء كما قال: يا بيذره، يا بيذره، يا بيذره وكما قال الآخر:


يا رب أباز من العصم صدع
تقبض الظل عليه فاجتمع لما رأى ألا دعه ولا شبع
مال إلى أرطأة حقف فاضطجع لأن هذأ حسن فيه إظهار الهاء، إذ كان الكلام تاماً يحسن عليه السكوت، وقوله: محدثه ملك، مضاف ومضاف إليه، فلا يحسن فيه مثل ذلك، إذ كان الاسمان كاسم واحد.
[عدل] صالح بن عبد القدوس

وأما صالح بن عبد القدوس فقد شهر بالزندقة، ولم يقتل، ولله العلم، حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويروى لأبيه عبد القدوس:


كما أهلكت ملكة من زائرٍ
خربها الله وأبياته لا رزق الرحمن أحياءها
وأشوت الرحمة أمواتها وقد كان لصالح ولد حبس على الزندقة حبساً طولاً، وهو الذي يروى له:


خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى إذا ما أتانا زائر متفقد
فرحنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا وأما رجوعه عن الزندقة لما أحس بالقتل، فإنما ذلك على سبيل الختل. فصلى الله على محمد، فقد روي عنه أنه قال: " بعثت بالسيف، والخير في السيف، والخير بالسيف " . وفي حديث آخر: لا تزال أمتي بخير ما حملت السيوف " . والسيف حمل صالحاً على التصديق، ورده عن رأي الزنديق، وتلك آية من آيات الله إذا هي ظهرت للنفس الكافرة، فقد فني لا ريب زمانها، ولا يقبل هناك إيمانها: " لم تكن آمنت من قبل " وللسفه طل ووبل.
وأما " القصار " فجهل يجمع ويصار، ولو تبع حقاً مقروباً، لكفي سماً مشروباً، ولكن الغرائز أعاد، ولا بد من لقاء الميعاد.
وأما المنسوب إلى الصناديق، فإنه يحسب من الزناديق. وأحسبه الذي كان يعرف بالمنصور، ظهر سنة سبعين ومائتين، وأقام برهة باليمن، وفي زمانه كانت القيان تلعب بالدف وتقول:


خذي الدف يا هذه والعبي
وبثي فضائل هذا النبي تولى نبي بني هاشم
وقام نبي بني يعرب فما نبتغي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب إذا القوم صلَّوا فلا تنهضي
وإن صوّموا فكلي واشربي ولا تحرمي نفسك المؤمنين
من أقربين ومن أجنبي فكيف حللت لذاك الغريب
وصرت محرمة للأب؟ أليس الغراس لمن ربّه
وروّاه في عامه المجدب؟ وما الخمر إلا كماء السحا
ب طلق، فقد ست من مذهب فعلى معتقد هذه المقالة بهلة المبتهلين. وهذه الطبقة، لعنها الله، تستعبد الطغام بأصناف مختلفة، فإذا طمعت في دعوى الربوبية لم تتئب في الدعوى، ولا لها عما قبح رعوى، وإذا علمت أن في الإنسان تميزاً، أرته إلى ما يحسن تحيزاً. وقد كان باليمن رجل يحتجب في حصن له، ويكون الواسطة بينه وبين الناس خادماً له أسود قد سماه جبريل، فقتله الخادم في بعض الأيام وانصرف. فقال بعض المجان:


تبارك الله في علاه
فر من الفسق جبرئيل فظل من تزعمون رباً
وهو على عرشه قتيل ويقال إنه حمله على ذلك ما كان يكلفه من الفسق.
وإذا طمع بعض هؤلاء، فإنه لا يقتنع بالإمامة ولا النبوة. ولكنه يرتفع صعداً في الكذب، ويكون شربه من تحت العذب ( أي الطُّحلب.) ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم. بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء. وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي.
وكان ربيعة بن أمية بن خلفٍ الجمحي، جرى له مع أبي بكر الصديق، رحمة الله عليه، خطب، فلحق بالروم، ويروى أنه قال:


لحقت بأرض الروم غير مفكرٍ
بترك صلاة من عشاء ولا ظهرِ فلا تتركوني من صبوح مدامةٍ
فما حرم الله السلاف من الخمرِ إذا أمرت تيم بن مرة فيكم
فلا خير في أرض الحجاز ولا مصرِ فإن يك إسلامي هو الحق والهدى
فإني قد خليته لأبي بكرِ وافتن الناس في الضلالة حتى استجازوا دعوى الربوبية، فكان ذلك تنطساً في الكفر، وجمعاً للمعصية في المزاد الوفر. وإنما كان أهل الجاهلية يدفعون النبوة ولا يجاوزون ذلك إلى سواه.
ولما أجلى عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال إن رجلاً من يهود خيبر يعرف بسمير بن أدكن قال في ذلك:


يصول أبو حفصٍ علينا بدرةٍ
رويدك إن المرء يطفو ويرسب كأنك لم تتبع حمولة ماقطٍ
لتشبع، إن الزاد شيء محبب فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم
علينا ولكن دولة ثم تذهب ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب مشيتم على آثارنا في طريقنا
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا