إنّك يا قطين ولت منهم
لألأم مالك عقباً وريشاً تناءت منكم عدس بن زيدٍ
فلم تعرفكم إلا نئيشاً وما زال الشّبان المحسون من أنفسهم بالنهضة، يبغون ما شرف من المراهص، وكيف بالسّلامة من الواهص؟ والمثل السّائر: رأي الشّيخ خير من مشهد الغلام. وربمّا سار الطّالب سورّة، فواجهت من القدر زورةّ، إنّ الغفة من العيش، لتغني المجتهد عن البري والرّيش، ولكن لا موئل من القضاء المحتوم، وآهٍ من عمرٍ بالتّلف مختوم:
وسورة علمٍ لن تسَّدد، فأصبحت
وما يتمارى أنّها سورة الجهل وأمّا حججه الخمس فهو، إن شاء الله، يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنّه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدّق عليهم بالأربع.
وكأنّي به وعماعم الحجيج، يرفعون التّلبية بالعجيج، وهو يفكر في تلبيات العرب وأنّها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطورٍ. فالمسجوع كقولهم:
ليبك ربنّا لَّبيك
والخير كله بيديك والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرَّجز، والأخر من المنسرح، فالذي من الرَّجز كقولهم:
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك
تملكه وما ملك أبو بناتٍ بفدك
فهذه من تلبيات الجاهليّة، وفدك يومئذ فيها أصنام، وكقولهم:
لبيك يا معطي الأمر
لبيّك عن بني النّمر جئناك في العام الزَّمر
نأمل غيثاً ينهمر يطرق بالسيّل الخمر.
والذي من المنسوج جنسان: أحدهما في آخره ساكنان، كقولهم:
لبيك ربَّ همدان
من شاحطٍ ومن دان جئناك نبغي الإحسان
بكلّ حرفٍ مذعان نطوي إليك الغيطان:
نأمل فضل الفغران والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن بجيلة
الفخمة الرّجيلة ونعمت القبيلة
جاءتك بالوسيله نؤّمل الفضيله
وربّما جاؤوا به على قوافٍ مختلفة، كما رورا في تلبية بكر بن وائل:
لبيك حقاً حقاً
تعبّداً ورقاً جئناك النَّصاحه
لم نأت للرَّقاحه والمشطور جنسان: أحدهما عند الخليل من الرّجز، كما روي في تلبية تميم:
لبيك لولا أنّ بكراً دونكا
يشكرك الناس ويكفرونكا ما زال منّا عثج يأتونكا
والآخر من السريع وهو نوعان: أحدهما يلتقي فيه ساكنان كما يروون في تلبية همدان:
لبيك مع كل قبيلٍ لبوك
همدان أبناء الملوك تدعوك قد تركوا أصنامهم وأنتابوك
فاسمع دعاءً في جميع الأملوك قوهم: لبَوك، أي لزموا أمرك، ومن روى: لبَّوك، فهو سناد مكروه. والمشطور الذي لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن سعدٍ وعن بنيها
وعن نساءٍ خلفها تعنيها سارت إلى الرّحمة تجتنيها
والموزون من التلبية يجب أن يكون كلهّ من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعّلهم قد لبّوا به ولم تنقله الرّواة.
وكأني به لمّا اعتزم على استلام الرّكن، وقد ذكر البيتين اللذّين ذكرهما المفجع في حدَّ الإعراب:
لو كان حياّ قبلهن ظعائناً
حيَّا الحطيم وجوهنَّ وزمزم لكنَّه عمّا يطيف بركنه
منهنَّ صمّاء الصدى مستعجم فيعجب من خروجه من المذكَّر إلى المؤنث. وإذا حمل هذا على إقامة الصفّة مقام الموصوف لم يبعد. وكذلك يذكر قول الآخر:
ذكرتك والحجيج له عجيجٌ
بمكثة والقلوب لها وجيب فقلت ونحن في بلدٍ حرامٍ
به لله أخلصت القلوب أتوب إليك يا ربّاه ممّا
جنيت فقد تظاهرت الذّنوب فأمّا من هوى ليلى وحبِّي
زيارتها، فإنِّي لا أتوب فيقول: أليس قال البصريون إنَّ هاء النُّدبة لا تثبت في الوصل والهاء في قوله: يا ربَّاه، مثل تلك الهاء ليس بينهما فرقٌ؟ ولكن يجوز أن يكون مغزاهم في ذلك المنثور من الكلام، إذ كان المنظوم يحتمل أشياء لا يحتملها سواه،ولعلّه قد ذكر هذه الأبيات في الطَّواف:
أطوِّف بالبيت فيمن يطوِّف
وأرفع من مئزري المسبل وأسجد باللّيل حتى الصّباح
وأتلو من المحكم المنزل عسى فارج الكرب عن يوسفٍ
يسخِّر لي ربَّة المحمل فقال: ما أيسر لفظ هذه الأبيات لولا أنّه حذف أن من خبر عسى! فسبحان الله، لا تعدم الحسناء ذاماً، وأيُّ الرّجال المهذَّب،وذكر عند النَّفر وتفرُّق الناس هذين البيتين:
ودّعي القلب يا قريب وجودي
لمحبٍّ فراقه قد أحمّا ليس بين الحياة والموت إلاَّ
أن يرّدوا جمالهم فتزمّا وقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت ونحن على منى
تحلُّ بنا، لولا نجاء الرّكائب ولم أرها إلاَّ ثلاثاً على منى
وعهدي بها عذراء ذات ذوائب تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامةٍ
بدا حاجب ٌ منها، وضنَّت بحاجب وميّز بين هذين الوجهين في قوله: تحلُّ بنا، لأنََّه يحتمل أن يكون: تحلّ فينا، وقد يجوز أن يريد: تحلنا، كما يقال: انزل بنا هاهنا، أي أنزلنا، ومنه قوله:
كما زلَّت الصّفواء بالمتنزل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)