الباب الحادي عشر في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

هذا الباب كالأساس والأصل لما بعده من الأبواب فإن سائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانب النفس فالمواد الفاسدة كلها إليها تنصب ثم تنبعث منها إلى الأعضاء وأول ما تنال القلب وقد كان رسول الله يقول في خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن عبيد ورد أن رسول الله قال له: يا حصين كم تعبد قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء قال: أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها فأسلم فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي
وقد استعاذ من شرها عموما ومن شر ما يتولد منها من الأعمال ومن شر ما يترتب على ذلك من المكاره والعقوبات وجمع بين الاستعاذة من شر النفس ومن سيئات الأعمال وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من باب إضافة النوع إلى جنسه أي أعوذ بك من هذا النوع من الأعمال
والثاني: أن المراد به عقوبات الأعمال التي تسوء صاحبها
فعلى الأول: يكون قد استعاذ من صفة النفس وعملها
وعلى الثاني: يكون قد استعاذ من العقوبات وأسبابها
ويدخل العمل السيء في شر النفس فهل المعنى: ما يسوءني من جزاء عملي أو من عملي السيء وقد يترجح الأول فإن الاستعاذة من العمل السيء بعد وقوعه إنما هي استعاذة من جزائه وموجبه وإلا فالموجود لا يمكن رفعه بعينه
وقد اتفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها وتركها بمخالفتها والظفر بها
فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم
قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: فأما من طغى وءاثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى
فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا والرب يدعو عبده إلى خوفه ونهي النفس عن الهوى والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء وقد وصف سبحانه النفس في القرآن بثلاثة صفات: المطمئنة والأمارة بالسوء واللوامة
فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها أم للعبد ثلاث أنفس: نفس مطمئنة ونفس لوامة ونفس أمارة
فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسرين وقول محققي الصوفية والثاني قول كثير من أهل التصوف
والتحقيق: أنه لا نزاع بين الفريقين فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاث باعتبار صفاتها فإذا اعتبرت بنفسها فهي واحدة وإن اعتبرت مع كل صفة دون الأخرى فهي متعددة وما أظنهم يقولون إن لكل أحد ثلاث أنفس: كل نفس قائمة بذاتها مساوية للأخرى في الحد والحقيقة وأنه إذا قبض العبد قبضت له ثلاث أنفس كل واحدة مستقلة بنفسها
وحيث ذكر سبحانه النفس وأضافها إلى صاحبها فإنما ذكرها بلفظ الإفراد وهكذا في سائر الأحاديث ولم يجىء في موضع واحد نفوسك ونفوسه ولا أنفسك وأنفسه وإنما جاءت مجموعه عند إرادة العموم كقوله وإذا النفوس زوجت أو عند إضافتها إلى الجمع كقوله إنما أنفسنا بيد الله ولو كانت في الإنسان ثلاث أنفس لجاءت مجموعة إذا أضيفت إليه ولو في موضع واحد
فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي مطمئنة وهي التي يقال لها عند الوفاة يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية. قال ابن عباس: يا أيتها النفس المطمئنة [ الفجر: 27 ] يقول: المصدقة وقال قتادة: هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله وقال الحسن المطمئنة بما قال الله والمصدقة بما قال وقال مجاهد هي المنيبة المخبتة التي أيقنت أن الله ربها وضربت جأشا لأمره وطاعته وأيقنت بلقائه وحقيقة الطمأنينة: السكون والاستقرار فهي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره وذكره ولم تسكن إلى سواه فقد اطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره واطمأنت إلى أمره ونهيه وخبره واطمأنت إلى لقائه ووعده واطمأنت إلى التصديق بحقائق أسمائه وصفاته واطمأنت إلى الرضى به ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا واطمأنت إلى قضائه وقدره واطمأنت إلى كفايته وحسبه وضمانه فاطمأنت بأنه وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله وأن مرجعها إليه وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين
وإذا كانت بضد ذلك فهي أمارة بالسوء تأمر صاحبها بما تهواه: من شهوات الغي واتباع الباطل فهي مأوى كل سوء وإن أطاعها قادته إلى كل قبيح وكل مكروه وقد أخبر سبحانه أنها أمارة بالسوء ولم يقل آمرة لكثرة ذلك منها وأنه عادتها ودأبها إلا إذا رحمها الله وجعلها زاكية تأمر صاحبها بالخير فذلك من رحمة الله لا منها فإنها بذاتها أمارة بالسوء لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمة الله والعدل والعلم طارىء عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة
فإذا أراد الله سبحانه بها خيرا جعل فيها ما تزكو به وتصلح: من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالها التي خلقت عليها من الجهل والظلم
وسبب الظلم: إما جهل وإما حاجة وهي في الأصل جاهلة والحاجة لازمة لها فلذلك كان أمرها بالسوء لازما لها إن لم تدركها رحمة الله وفضله
وبهذا يعلم أن ضرورة العبد إلى ربه فوق كل ضرورة ولا تشبهها ضرورة تقاس بها فإنه إن أمسك عنه رحمته وتوفيقه وهدايته طرفة عين خسر وهلك
فصل

وأما اللوامة فاختلف في اشتقاق هذه اللفظة هل هي من التلوم وهو التلون والتردد أو هي من اللوم وعبارات السلف تدور على هذين المعنيين
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما اللوامة قال: هي النفس اللؤوم
وقال مجاهد: هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه
وقال قتادة: هي الفاجرة وقال عكرمة: تلوم على الخير والشر وقال عطاء عن ابن عباس كل نفس تلوم نفسها يوم القيامة تلوم المحسن نفسه أن لا يكون ازداد احسانا وتلوم المسىء نفسه أن لا يكون رجع عن إساءته
وقال الحسن إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها في كل ما يفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه
فهذه عبارات من ذهب إلى أنها من اللوم وأما من جعلها من التلوم فلكثرة ترددها وتلومها وأنها لا تستقر على حال واحدة والأول أظهر فإن هذا المعنى لو أريد لقيل: المتلومة كما يقال: المتلونة والمترددة ولكن هو من لوازم القول الأول فإنها لتلومها وعدم ثباتها تفعل الشىء ثم تلوم عليه فالتلوم من لوازم اللوم
والنفس قد تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا والحكم للغالب عليها من أحوالها فكونها مطمئنة وصف مدح لها وكونها أمارة بالسوء وصف ذم لها وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه
والمقصود: ذكر علاج مرض القلب باستيلاء النفس الأمارة عليه وله علاجان:
محاسبتها ومخالفتها وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله دان نفسه: أي حاسبها
وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
وذكر أيضا عن الحسن قال: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: وماذا أردت تعملين وماذا أردت تأكلين وماذا أردت تشربين والفاجر يمضي قدما قدما لا يحاسب نفسه
وقال قتادة في قوله تعالى وكان أمره فرطا [ الكهف: 28 ]: أضاع نفسه وغبن مع ذلك تراه حافظا لماله مضيعا لدينه
وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته
وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك وقال ميمون بن مهران أيضا: إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل: أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإجماما للقلوب وقد روي هذا مرفوعا من كلام النبي رواه أبو حاتم وابن حبان وغيره
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك هيهات هيهات حيل بيني وبينك ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه مأخوذ عليه في ذلك كله
قال مالك بن دينار: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائدا