وفي محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا
وقال مطرف بن عبد الله: لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس
وقال مصرف في دعائه بعرفة: اللهم لا ترد الناس لأجلي
وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم
وقال أيوب السختياني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين فقال: يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال: إي والله إني لأرجو لك ذلك
وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش: صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر فولى وإن له لزئيرا أقول: تصدع الجبال منه قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترىء أن يسألك الجنة قال: ثم رجع واصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شىء الله به عالم
وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة
وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني اسرائيل في صومعة منذ ستين سنة فأتي في منامه فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك ليلة بعد ليلة فأتى الإسكافي فسأله عن عمله فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فأثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا
وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورا ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها
فالنفس داعية إلى المهالك معينة للأعداء طامحة إلى كل قبيح متبعة لكل سوء فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة
فالنعمة التي لا خطر لها: الخروج منها والتخلص من رقها فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها ومقتا لها
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي حدثنا عامر بن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري فقال قائل: يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما بال الكفر قال: إن الإنسان لظلوم كفار
قال: وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار حدثنا عقبة ابن صهبان الهنائي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله [ فاطر: 32 ] فقالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله شهد له رسول الله بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا
وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة رضي الله عنها فقالت: سمعت النبي يقول: إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له: اسمع ما تقول أمك. فقام عمر رضى الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك بالله أمنهم أنا قالت: لا ولن أبرئ بعدك أحدا
فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب ولم ترد أنك وحدك البرىء من ذلك دون سائر الصحابة
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل
ذكر ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: إن قوما من بني إسرائيل كانوا في مسجد لهم في يوم عيد فجاء شاب حتى قام على باب المسجد فقال: ليس مثلي يدخل معكم أنا صاحب كذا أنا صاحب كذا يزري على نفسه فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: أن فلانا صديق
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا منذر عن وهب: أن رجلا سائحا عبد الله تعالى سبعين سنة ثم خرج يوما فقلل عمله وشكا إلى الله تعالى منه واعترف بذنبه فأتاه آت من الله فقال: إن مجلسك هذا أحب إلى من عملك فيما مضى من عمرك
قال أحمد: وحدثنا عبد الصمد أبو هلال عن قتادة قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: سلوني فإني لين القلب صغير عند نفسي
وذكر أحمد أيضا عن عبد الله بن رياح الأنصاري قال: كان داود عليه السلام ينظر أعمص حلقة في بني إسرائيل فيجلس بين ظهرانيهم ثم يقول: يا رب مسكين بين ظهراني مساكين
وذكر عن عمران بن موسى القصير قال: قال موسى عليه السلام يا رب أين أبغيك قال: ابغنى عند المنكسرة قلوبهم فإني أدنو منهم كل يوم باعا ولولا ذلك انهدموا
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد: أن رجلا من بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة فلم يظفر بها فقال في نفسه: والله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك فأتى في منامه فقيل له: أرأيت ازدراءك نفسك تلك الساعة فإنه خير من عبادتك تلك السنين
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدى عليه وهي قليلة المنفعة جدا
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال: يا رب ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله تعالى إليه: لو دعاني حتى ينقطع قواه ما أستجيب له حتى ينظر في حقي عليه
فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة وأنه إن أحيل على عمله هلك فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم ومن ههنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره: هل قام به كما ينبغي
ثانيا وأفضل الفكر الفكر في ذلك فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعا منكسرا كسرا فيه جبره ومفتقرا فقرا فيه غناه وذليلا ذلا فيه عزه ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن القاسم حدثنا صالح المدني عن أبي عمران الجوني عن أبي الخلد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: إذا ذكرتنى فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكرى خاشعا مطمئنا وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدى فقم مقام العبد الحقير الذليل وذم نفسك فهي أولى بالذم وناجنى حين تناجينى بقلب وجل ولسان صادق ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه أن لا يتركه ذلك يدل بعمل أصلا كائنا ما كان ومن أدل بعمله لم يصعد إلى الله تعالى كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: إني لأقوم في صلاتي فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى فقال له: إنك أن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك فإن صلاة الدال لا تصعد فوقه
فقال له: أوصنى قال: عليك بالزهد في الدنيا وأن لا تنازعها أهلها وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره وأوصيك بالنصح لله تعالى نصح الكلب لأهله فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم وينصحهم
ومن هذا أخذ الشاطبي قوله:
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله... ولا يأتلي في نصحهم متبذلا
وقال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا الجريرى قال بلغني أن رجلا من بني إسرائيل كانت له إلى الله تعالى حاجة فتعبد واجتهد ثم طلب إلى الله تعالى حاجته فلم ير نجاحا فبات ليلة مزريا على نفسه وقال: يا نفس مالك لا تقضي حاجتك فبات محزونا قد أزرى على نفسه وألزم إطلاقه نفسه فقال: أما والله ما من قبل ربي أتيت ولكن من قبل نفسي أتيت وألزم نفسه الملامة فقضيت حاجته
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 7 (0 من الأعضاء و 7 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)