ونظير هذا قوله في سورة الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ الأعراف: 199 ] فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف: 200 ] ونظير ذلك قوله في سورة فصلت: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم [ فصلت: 34 ]
فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام في: السميع العليم وقال في الأعراف: إنه سميع عليم وسر ذلك والله أعلم أنه حيث اقتصر على مجرد الإسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة وهذا المعنى شامل للموضعين وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمه بهم كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله فأنزل الله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ فصلت: 22 ] فجاء التوكيد في قوله: إنه هو السميع العليم في سياق هذا الإنكار: أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون وحسن ذلك أيضا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبة بقوله وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ فصلت: 35 ] فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ
وأيضا فإن السياق ههنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله ومن آياته الليل والنهار [ فصلت: 37 ] وبقوله: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة [ فصلت: 39 ] فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السميع العليم كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها فإنه سميع عليم وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فكيف تسوونها به في العبادة فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير كما لا يليق بذلك غير التعريف والله أعلم بأسرار كلامه ولما كان المستعاذ منه في سورة حم المؤمن هو شر مجادلة الكفار في آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ غافر: 56 ] فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: إنه هو السميع البصير وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله
فصل

فالقرآن أرشد إلى دفع هذين العدوين بأسهل الطرق بالاستعاذة والإعراض عن الجاهلين ودفع ودفع إساءتهم بالإحسان وأخبر عن عظم حظ من لقاه ذلك فإنه ينال بذلك كف شر عدوه وانقلابه صديقا ومحبة الناس له وثناءهم عليه وقهر هواه وسلامة قلبه من الغلوالحقد وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه وهذا غاية الحظ عاجلا وآجلا ولما كان ذلك لا ينال إلا بالصبر قال: وما يلقاها إلا الذين صبروا فإن النزق الطائش لا يصبر على المقابلة
ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان ف إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة
والصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم: لا من جهة الحجة ولا من جهة القدرة والقدرة داخلة في مسمى السلطان وإنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين فقال في سورة الحجر: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر: 39 ]
وقال في سورة النحل: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل: 99 ] فتضمن ذلك أمرين: أحدهما نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص: 83 ]
فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله تعالى وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله فهؤلاء رعيته فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم
فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك [ سبأ: 20 ]
قيل: إن كان الضمير في قوله: وما كان له عليهم من سلطان. عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط ويكون الاستثناء منقطعا: أي لكن امتحناهم بإبليس لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وإن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه [ سبأ: 20 ] وهو الظاهر ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي ويكون المعنى: وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة
قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا ولأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيه يتم وإنما قال ظانا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء
وعلى هذا فيكون السلطان ههنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها وهم الذين تولوه وأشركوا به فيكون السلطان ثابتا لا منفيا فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات
فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم حيث يقول لأهل النار:
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ ابراهيم: 22 ] وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقررا له لا منكرا فدل على أنه كذلك
قيل: هذا سؤال جيد وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع: هو الحجة والبرهان أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم كما قال ابن عباس: ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم أي: ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وصدقتم مقالتي واتبعتموني بلا برهان ولا حجة وأما السلطان الذي أثبته في قوله: إنما سلطانه على الذين يتولونه [ النحل: 100 ] فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه ولا يدعهم يتركونه كما قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. قال ابن عباس: تغريهم إغراء وفي رواية تشليهم إشلاء وفي لفظ تحرضهم تحريضا وفي آخر تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وفي آخر توقدهم أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته قال الأخفش: توهجهم
وحقيقة ذلك: أن الأز هو التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز لأن الماء يتحرك عند الغليان ومنه الحديث: لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء قال أبو عبيدة: الأزيز الالتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال: از قدرك أي ألهب تحتها بالنار وأيزت القدر إذا اشتد غليانها فقد حصل للأز معنيان: أحدهما: التحريك والثاني: إلايقاد والإلهاب وهما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب
فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك ولكن ليس له على ذلك سلطان حجة وبرهان وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سلط عليهم عقوبة لهم وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء: 141 ] فالآية على عمومها وظاهرها وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه والشرك وفروعه يوجب سلطانه والجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده ومردها إليه وله الحجة البالغة فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك: فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [ السجانيه: 36 ]