وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك: هل هي واحدة أم ثلاث: بأنها ثلاث احتياطا للفروج
وأفتى من حلف بالطلاق: أن في هذه اللوزة حبتين وهو لا يعلم ذلك فبان الأمر كما حلف عليه: أنه حانث لأنه حلف على ما لا يعلم
وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها: يطلق عليه جميع نسائه احتياطا وقطعا للشك
وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها: إنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة فيلزمه الطلاق والعتاق والصدقة بثلث المال وكفارة الظهار وكفارة اليمين بالله تعالى والحج ماشيا ويقع الطلاق في جميع نسائه ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه وهذا أحد القولين عندهم ومذهب مالك أيضا أنه إذا حلف ليفعلن كذا: أنه على حنث حتى يفعله فيحال بينه وبين امرأته
ومذهبه أيضا: أنه إذا قال: إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا: أنها تطلق في الحال وهذا كله احتياط
وقال الفقهاء: من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله وقالوا: إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب وشك فيها صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته
وقالوا: إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة فلا يدرى في أي جهة فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة لتبرأ ذمته بيقين
وقالوا: من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات وقد أمر النبي من شك في صلاته: أن يبني على اليقين
وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره كما إذا وقع في الماء
وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر للشك في تسمية صاحبه عليه
وهذا باب يطول تتبعه
فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع وإن سميتموه وسواسا
وقد كان عبد الله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة حتى عمي
وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين
فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى ما لا يريب وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم وتجنبنا محل الاشتباه لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ولافي البدعة والجين وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال حتى لا يبالي العبد بدينه ولا يحتاط له بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ولا يبالي كيف توضأ ولا بأي ماء توضأ ولا بأي مكان صلى ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ويحسن ظنه فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه ويحمل الأمور على الطهارة وربما كانت أفحش النجاسة ويدخل بالشك ويخرج بالشك فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به واجتهد فيه حتى لا يخل بشيء منه وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور وأن لا ينقص منه شيئا
قالوا: وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور أو احتياط في اجتناب محظور
وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب والدخول في المحرم وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا وإنما نسميه احتياطا واستظهارا فلستم بأسعد منا بالسنة ونحن حولها ندندن وتكميلها نريد
وقال أهل الاقتصاد والاتباع: قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر [ الأحزاب: 21 ] وقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ النساء: 21 ] وقال تعالى: واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف: 158 ] وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فا تبعوه ولا تتبعوا السبلى فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ الأنعام: 153 ]
وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله ص وأصحابه وهو قصد السبيل وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة وإن قاله من قاله لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط وقد يكون يسيرا وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا وقد يجور دون ذلك فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه والجائر عنه إما مفرط ظالم أو مجتهد متأول أو مقلد جاهل فمنهم المستحق للعقوبة ومنهم المغفور له ومنهم المأجور أجرا واحدا بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله أو تفريطهم
ونحن نسوق من هدي رسول الله وهدي أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه، ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو وتعدي الحدود والإسراف وأن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين
قال الله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم [ المائده: 77 ] وقال تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين [ الأنعام: 141 ] وقال تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها [ البقرة: 229 ] وقال تعالى: ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [ البقرة: 190 ] وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ الأعراف: 55 ]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله ص غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: أمثال هؤلاء فارموا ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين رواه الإمام أحمد والنسائي وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله ص لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
فنهى النبي ص عن التشديد في الدين وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع
فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به وبالقدر كفعل أهل الوسواس فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم
قال البخاري: وكره أهل العلم الإسراف فيه يعني الوضوء وأن يجاوزوا فعل النبي وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إسباغ الوضوء: الإنقاء
فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة قال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله تعالى فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس:
الحمد لله الذي هدانا بنعمته وشرفنا بمحمد وبرسالته ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته فقال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم [ آل عمران: 31 ] وقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمي [ الأعراف: 156 ] ثم قال: فآمنوا بالله ورسوله النبيالأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [ الأعراف: 158 ] أما بعد: فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف: 17 ] وحذرنا الله تعالى من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر: 6 ] وقال: يا بني آدم لآيفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة [ الأعراف: 27 ] وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته وقطعا للعذر في متابعته وأمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع صراطه المستقيم ونهانا عن اتباع السبل فقال سبحانه: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام: 153 ] وسبيل الله وصراطه المستقيم: هو الذي كان عليه رسول الله وصحابته بدليل قوله تعالى: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم [ يس: 3 ] وقال: وإنك لعلى هدى مستقيم [ الشورى: 67 ] وقال: إنك لتهدي إلى صراط مستقيم. فمن اتبع رسول الله في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان